IMLebanon

لبنان.. انتخابات الهروب من السياسة

يحّق للبنانيين الاحتفاء بـ«ديمقراطية» نسبية توفرها لهم هذه الأيام الانتخابات البلدية. ويحّق لهم وأكثر٬ في ضوء تعّذر إجراء الانتخابات الرئاسية بناء لإرادات أجنبية٬ ما سّبب شغوًرا رئاسًيا عمره سنتان٬ ونسيانهم مجلًسا نيابًيا انُتخب عام 2009 لمدة أربع سنوات٬ إلا أنه مّدد لنفسه بنفسه منذ عام 2013» بحجة الظروف الأمنية الاستثنائية التي تمّر بها البلاد».

القاسم المشترك بين تعطيل الاستحقاقين الرئاسي والبرلماني٬ كما يعرف اللبنانيون٬ هو وجود دويلة مسلحة خارجية الولاء٬ أقوى من الدولة. ومع أنها تعمل ضمن مؤسساتها٬ وتستفيد من خدماتها٬ فإنها تحتفظ لنفسها بما لا تتقاسمه مع باقي مكّونات الوطن٬ ومنَثم الدولة٬ المفتَرض بها أن تمّثل كل الوطن وتحكمه وتحمي  سيادته.

وهكذا٬ في ظل السيادة الُمغَّيبة والديمقراطية الممنوعة٬ وانهيار الكثير من الخدمات٬ وتراجع الإعلام٬ وتخويف القضاء٬ واستشراء الفساد٬ جاءت الانتخابات البلدية والاختيارية (الخاصة بالمخاتير أو «الُعَمد») فرصة للتعبير عن الذات والتنفيس عن حالات الإحباط والعجز٬ ناهيك من تذكير المواطن بأنه قادر على الاعتراض.

وحًقا٬ أقبل اللبنانيون المقيمون على مراكز الاقتراع في المدن والأرياف٬ ابتداء بالعاصمة بيروت ومحافظتي البقاع وبعلبك – الهرمل٬ ثم محافظة جبل لبنان. واليوم تشارك بالتظاهرة الانتخابية محافظتا الجنوب والنبطية٬ لتنتهي في الأسبوع المقبل في محافظة الشمال.

وكالعادة٬ كانت هناك رغبة عارمة٬ شعبًيا وحزبًيا وإعلامًيا باستشفافُ معطيات سياسية للتجربة الانتخابية. والأمر الثابت أن أي تجربة انتخابية٬ حتى مستوى المجالس الطالبية في الجامعات والنقابات العمالية٬ تعطي فكرة عن توّجهات معينة في «مزاج» الرأي العام لكنها لا تعرض الصورة كاملة لأنها٬ بخلاف الانتخابات البرلمانية٬ ترضخ لتحالفات عارضة وخيارات وولاءات شخصية.

في الانتخابات البلدية أيًضا٬ لا يجوز قراءة المضامين السياسية بالعمق٬ وبالأخص٬ في القرى والبلدات الصغيرة٬ حيث تلعب العلاقات العائلية والعشائرية الدور الأبرز في أفضليات الناخبين٬ كما تشكل أحجام العائلات والعشائر ثقلاً انتخابًيا يتجاوز أهمية الولاءات الحزبية.

وبالتالي٬ لا تصح القراءة السياسية إلا في مواضع معينة٬ هي التالية:

أولاً: أن الانتخابات البلدية حملت نوًعا من اختبار الأحجام السياسية فقط في المناطق المسيحية٬ وهنا كانت النتائج لافتة وتستحق التوقف عندها.

ثانًيا: الاطلاع على حجم الحالة الاعتراضية على هيمنة تحالف «الثنائي الشيعي» المكّون من «حزب الله» وحركة أمل في المناطق الشيعية٬ أمام خلفية توّرط ما يسمى «حزب الله» في الحرب السورية٬ وتداعيات توّرطه بشرًيا ومعيشًيا.

ثالًثا: متابعة تبلور «الحالة السّنية» بعد عودة رئيس الوزراء الأسبق سعد الحريري إلى لبنان٬ وتنامي قوة التيارات الإسلامية الحركية٬ لا سيما٬ في المناطق السّنية الريفية.

رابًعا: رصد مستوى حيوية المجتمع المدني الذي قد يعّبر٬ أو لا يعّبر٬ عن خيبة الأمل بالطبقة السياسية٬ وقدرته على طرح قضاياه المطلبية مخترًقا الحواجز الطائفية والحزبية.

مسيحًيا٬ كان الاختبار مهًما في أعقاب صفقة تحالف «التيار العوني» و«القوات اللبنانية» الذي دفع بعض المحازبين المتحمسين للتباهي بأنه يمثل 85 في المائة من الشارع المسيحي. لكن ما حصل هو أن «الحليفين» تحالفا وتبادلا الأصوات في أماكن وخاضا مواجهات في أماكن أخرى٬ لأن المعطيات العائلية والمحلية كانت أقوى من التفاهمات الفوقية. وحتى حين نجح التحالف المسيحي الكبير٬ كما حصل في مدينة زحلة وبعض بلدات جبل لبنان ومنها دير القمر٬ فإن الفوارق في الأصوات كانت ضئيلة٬ أو تعّرضت اللوائح للاختراق من مرشحي الطرف الآخر. ثم إن حزب الكتائب اللبنانية ­ الذي كان تحالف عون والقوات قد تصّور أنه ماٍض في طريق الانحدار ­ حقق صعوًدا طيًبا٬ واستعاد الكثير من حيويته في أكثر من منطقة٬ ناهيك عن أن زعامات تقليدية مستقلة حافظت على حد مقبول من إثبات الذات في معاقلها٬ إن لم يكن على صعيد المقاعد فعلى صعيد نسبة الأصوات. والخلاصة هنا٬ أن معركة الانتخابات البلدية كانت مؤشًرا لاحتكار سياسي في الشارع المسيحي٬ وبالأخص٬ حيث أراد البعض أن يجعل من الاختبار المحلي استفتاًء على شعارات ومشاريع وطنية وشخصية كبيرة.

على المستوى الشيعي٬ على الأقل في شمال شرق لبنان٬ كان لافًتا أن حالة الاعتراض في مدينة بعلبك٬ كبرى المدن الشيعية في المنطقة٬ أعطت لائحة العائلات والعشائر المنافسة لثنائي (ما يسمى «حزب الله» – أمل) أكثر من 40 في المائة من الأصوات٬ وهذا على الرغم من احتكار «الثنائي» السلاح و«الوطنية»٬ و«المقاومة»٬ و«التنمية». ومع أن ثمة من يقول إن الحالة الشيعية في شمال شرق لبنان (أي بعلبك – الهرمل) لا تصدق بالضرورة عليها في جنوبه.. لاختلاف النسيج الاجتماعي (عشائري مقابل فلاحي ­ مديني) والجوار الجغرافي (سوريا مقابل إسرائيل) بين البيئتين – وبالتالي٬ فسطوة تحالف «الثنائي الشيعي» في الجنوب أقوى وأعمق – فإن لا مصلحة لا «حزب الله» ولا أمل بالتوّرط في سياسات القرى والبلدات الصغيرة٬ واستعداء أجزاء مما يعتبرانها بيئتهما الطبيعية.

أما بالنسبة للاختبار السّني٬ فقد نجح الطرح الائتلافي الذي قاده تيار «المستقبل» حتى الآن في المناطق المختلطة طائفًيا وعلى رأسها بيروت٬ كما ظهرت بعض مظاهر القوة من القوى الإسلامية والحزبية٬ لكن الاختبار الأكبر تشكله مدينة صيدا (أمس)٬ وفي الأسبوع المقبل مدينة طرابلس٬ و«الخزان السّني» بشمال لبنان.

وأخيًرا٬ بينما اختارت القيادات الدرزية ترك الانتخابات البلدية في إطارها المحلي – العائلي بعيًدا عن السياسات العليا كون الكثافة الدرزية في الأرياف٬ كان لافًتا أن هذه الانتخابات فتحت نافذة لصوت المجتمع المدني الاعتراضي الذي تبين٬ مع الأسف٬ أنه بقي في سياق الاعتراض من دون إحداث اختراقات.

ختاًما: تظل التجربة الانتخابية ظاهرة حيوية وصحية لكن بشرط قراءتها بصورة صحيحة.

إن وضع البلد ليس طبيعًيا٬ كون قرارهُمصادًرا٬ وسيادته منقوصة – بل قلُمغَّيبة – بقوة السلاح المذهبي المحّرك والموّجه خارجًيا٬ ونصف كفاءاته وُنَخبه الُمستنيرة مهاِجرة أو منفّية٬ والأحزاب قد تنجح في التجييش شعبوًيا وطائفًيا على المستوى الوطني٬ لكنها لم تغّيرَبعد النسيج الاجتماعي للبنان٬ فتحّول الناخب إلى مواطن حقيقي كامل المواَطنة.