بعد ظهر الإثنين المُنصرم، وبعد أن تقدّم تكتّل «الجمهورية القوية» من المجلس الدستوري بمُراجعة طعن بالقانون الرقم 215 / 2021 المُتعلّق بِمَنح مؤسسة كهرباء لبنان سلفة خزينة لتسديد عجز شراء المحروقات من موازنة 2021، تسنّى لي الإطّلاع على هذه المراجعة حيث تبيّن وفي شكل ثابت، أنّها مراجعة مُحّقة، لقانون خالف أحكام الدستور ونصوصه.
في 8/4/2021 صدر عن المجلس النيابي القانون الرقم 215 / 2021 الرّامي إلى إعطاء مؤسسة كهرباء لبنان سلفة خزينة بقيمة ثلاثماية مليار ليرة لبنانية، لتسديد عجز المحروقات، من موازنة العام /2021/. وقد صار نشر هذا القانون في عدد «الجريدة الرسمية» الرقم /15/ تاريخ 15/4/2021.
أجمع نوّاب تكتّل «الجمهورية القوية»، وفي كل نِقاشاتهم للقانون المشار إليه أعلاه، إنْ كان في اللجان النيابية المشتركة، وإنْ كان في الهيئة العمومية، على رفض القانون. مؤكّدين أنه سيتعرّض حُكماً لمُلكية المودعين كَوْن السلفة ستُقتطع من الإحتياطي الإلزامي، الذي هو أمانة للمودعين في ذمّة مصرف لبنان المركزي.
لجأت الغالبية النيابية إلى تخيير أعضاء تكتّل «الجمهورية القوية» بين العتمة والظُلمة من جهة، وبين الموافقة على القانون من جهة أخرى. فكان موقف التكتّل واضحاً بِرَفض هذه المُقايضة وهذا الإبتزاز، مُصرّاً على وجوب تأمين التيّار الكهربائي لكلّ مواطن، ولكن ليس من جيب المودعين والمواطنين. وعلى الحكومة تدبيرأمرها، وتنفيذ الإصلاحات ووقف التهريب، وعدم ابتزاز المواطن وتخييره بين العتمة و»الخوّة».
صدر القانون ونُشر، فما كان من تكتّل «الجمهورية القوية» إلّا أن تقدّم بمراجعة طعن وإبطال للقانون المذكور، أمام المجلس الدستوري، أرفقه بطلب تعليق نفاذه سنداً لأحكام المادة /19/ من الدستور، معطوفة على أحكام المادة /19/ من قانون إنشاء المجلس الدستوري الرقم 250 / 1993. وقّعه أكثر من 10 نوّاب، وسُجّل في قلم المجلس الدستوري ضمن مهلة الخمسة عشر يوماً (مهلة الطعن المحددة).
وفي الإطّلاع على عريضة المراجعة، وبتمحيصها بعد تقديمها وتسجيلها، تبيّن لنا الآتي:
• أنّ المراجعة استندت إلى مخالفة القانون المطعون فيه، أحكام الفقرة «و» من مقدّمة الدستور، والتي تنصّ على تكريس الملكية الفردية. وعلى مخالفة أحكام المادة /15/ من الدستور، والتي تنصّ أن الملكية في حِمى القانون. وعلى مخالفة أحكام المادة /17/ من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
ويسأل البعض، هل أن مخالفة أحكام الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تؤدّي إلى إبطال القانون؟
إنّ الجواب على ذلك بسيط، فبالتأكيد ان أي مخالفة لأحكام الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تعتبر مخالفة دستورية. ويكفي العودة إلى أحكام الفقرة «ب» من مقدّمة الدستور، التي تنصّ أن لبنان عربي الهوية والانتماء، وهو عضو مؤسس وعامل في جامعة الدول العربية ومُلتزم مواثيقها، كما هو عضو مؤسس وعامل في منظّمة الأمم المتحدة وملتزم مواثيقها، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
وبالتالي، جاء القانون مخالفاً لأحكام المادة /17/ من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والتي تنص حرفيّاً: «لكل فرد حق في التملُّك بمفرده أو بالإشتراك مع غيره. لا يجوز تجريد أحد من ملكه تعسُّفاً. إنّ هذا الحق هو حق دستوري يُشكّل دعامة الإقتصاد الليبرالي المبني على روح المبادرة الفردية».
وبالتالي، مُخالفاً للدستور.
فمن الثابت أن هذه السلفة، والتي أقرّها القانون المطعون به، سيتمّ اقتطاعها من الإحتياطي الإلزامي المُتبقّي في مصرف لبنان، وذلك ثابت في تصريحات معالي وزير المال، وحاكم مصرف لبنان، ونائب رئيس مجلس النوّاب، وغيرهم من المسؤولين وأصحاب القرار.
وثابت أيضاً أنّ هذا الإحتياطي الإلزامي هو ملك للمودعين، وهو أمانة في ذمّة المصرف المركزي لمصلحة المودعين، ولا يمكن المسّ به أو التصرُّف فيه على الإطلاق، تحت أي ذريعة أو مُبرّر. ولا يحقّ للسلطة أن تبتّز المواطن وتُخيّره بين العتمة و»الخوّة» كَوْن مسؤولية إيجاد الحلول تقع على عاتقها، وهي المُقصّرة في هذا المجال، إنْ لم نَقُل مُتواطئة.
ولمّا كانت الفقرة «و» من مقدّمة الدستور، كذلك المادة /15/ منه، وأيضا المادة /17/ من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، تنصّ كلها على حماية ملكية الأفراد وملكية الجماعة (قرار المجلس الدستوري الرقم 4 / 2000 تاريخ 22/6/2000) وعملاً بقاعدة أن حق الملكية هو حق مُصان دستوراً. يقتضي على المجلس الدستوري الذهاب في اتّجاه قبول الطعن شكلاً وأساساً، وإبطال القانون المطعون فيه لمخالفته أحكام الدستور.
أمّا لجهة المُفترض راهناً، فإن المادة /20/ من قانون إنشاء المجلس الدستوري الرقم 250 / 1993 نصّت صراحةً على أنّه فَوْرَ تسجيل المراجعة، يدعو رئيس المجلس الدستوري المجلس فوراً للبّت بطلب وقف نفاذ القانون المطعون فيه، ولتبليغ أعضاء المجلس نسخاً عن الطعن، ولتعيين مُقرّر من الأعضاء…
ولمّا كان من الثابت أن عضوين من أعضاء المجلس الدستوري قد وافتهما المنيّة، وبالتالي بات عديده اليوم ثمانية أعضاء عوض عشرة.
ولمّا كان من الثابت أن النِّصاب الواجب توافره لعقد أي جلسة للمجلس الدستوري مُحدّد بثمانية أعضاء على الأقّل (المادة /11/ من القانون 250 / 1993) فإنّ عدد الثمانية متوافر قانوناً، بغضّ النظر عن الوضع الصحّي لأحد الأعضاء الذي نتمنّى له السلامة العاجلة والشفاء السريع.
وبالتالي، يقتضي على رئيس المجلس الدستوري أن يدعو المجلس إلى عقد جلسة، عملاً بأحكام المادة /20/ من القانون 250 / 1993، بغضّ النظر عما إذا كان النِّصاب سيتوافر أم لا، وما إذا كان الأعضاء سيُشاركون جميعاً أم لا. إنما يقتضي عليه وعملاً بأحكام القانون أن يدعو إلى عقد جلسة لأعضاء المجلس، خصوصاً أن النِّصاب قانوناً لمّا يزل متوافراً.
أمّا لجهة الأساس، فإنّ مراجعة الطعن تتّسِم بالجدّية المُطلقة، وتستند إلى وقائع ونصوص واجتهادات قضائية وفِقه محلّي ومقارن، مما يوجِب على المجلس الدستوري التعاطي معها بكل حِرفية وإتقان.
وما لَفَتني في المراجعة أن أعضاء التكتُّل إستندوا إلى اجتهادات القضاء الدستوري الفرنسي، خصوصاً لجهة مطالبتهم، وتحت باب الإستطراد (وفي حال عدم ذهاب المجلس الدستوري في اتّجاه إبطال القانون المطعون به) في تفسير القانون المطعون فيه، بما لا يتعارض عند تطبيقه وتنفيذه مع حق الملكية الخاصة، ومما يحول دون صرف السلفة المُقرّرة من الإحتياطي الإلزامي في مصرف لبنان، وبالتالي عدم المسّ بأموال المودعين، كَوْن هذا الإحتياطي الإلزامي هو ملك للمودعين وليس للسلطة على الإطلاق.
علماً أنّ المجلس الدستوري الفرنسي اعتمد مبدأ تفسير القوانين المطعون بها، في أكثر من قرار وأكثر من مراجعة. مع الإشارة إلى أن تفسير القانون لا يعني على الإطلاق تفسير الدستور، الذي هو من صلاحية مجلس النوّاب حصراً (Décision interpretative).
وفي الخُلاصة، الرِّهان اليوم على المجلس الدستوري أن يتّخذ القرار الجريء، بإبطال القانون موضوع الطعن، لتعرُّضه لحقوق المودعين، ولتعَدّيه الصارخ على حقوقهم وأموالهم وأرزاقهم، ولمخالفته أحكام الدستور. وإلّا تفسير القانون المطعون فيه، بما يحول دون اقتطاع السلفة المُقرّرة من الإحتياطي الإلزامي في مصرف لبنان.