الخسائر وصلت إلى 50 مليار دولار… ومجلس النواب لا يحرك ساكناً
كبّدت الكهرباء مصرف لبنان (من اموال المودعين) هدراً (وفساداً؟) قدّره البنك المركزي كما ورد في تقرير شركة التدقيق الجنائي «ألفاريز أند مارسال» بنحو 24 مليار دولار هي عبارة عن قيمة التحويلات الى مؤسسة كهرباء لبنان ووزارة الطاقة بين 2010 و 2021.
كان للأموال المهدورة في الكهرباء دور في تفاقم الدين العام، ولم يستدع ذلك الإهتمام اللازم لكشف المسؤولين وفتح ملف المساءلة والمحاسبة من خلال لجنة تحقيق برلمانية لمعرفة هوية المتورّطين في ذلك الهدر الذي لم يقُد لبنان سوى الى العتمة الشاملة. علماً أن قانون الكهرباء رقم 462/2002 والذي تمّ إقراره بهدف القيام بإصلاحات لم يطبق لا سيما عدم تعيين هيئة ناظمة للكهرباء، بل بقيت زمام الأمور في قبضة وزير الطاقة.
لجنة المال والموازنة في الوقت الراهن منكبّة على دراسة مشروع قانون الموازنة والتي تعتبرها من أولى مهامها، وترى مصادرها أنه يترتّب على لجنة الأشغال العامة والنقل والطاقة والمياه الإقدام على خطوة اقتراح لجنة للتحقيق في الأموال التي أهدرتها الحكومات المتعاقبة بالتعاون مع مجلس النواب في القطاع والمقدّرة بقيمة 40 الى 50 مليار دولار (مع الفوائد) منذ التسعينات حتى تاريخه، والتي اوصلتنا الى الظلمة الشاملة والكاملة، ما عزز قطاع مولّدات خاصة احتكر أصحابها السوق، وخرج البعض منهم عن القوانين وأمسك بيد المواطن الذي تؤلمه، فيما الدولة «المفلسة» عاجزة عن وضع حدّ لهم ولفوضى التسعير.
نسبة الهدر 50% من الفاتورة
وحول سبب عدم التحقيق في هدر أموال الكهرباء، قال رئيس لجنة الأشغال العامة والنقل والطاقة والمياه سجيع عطية لـ»نداء الوطن»، إن الهدر الذي حصل في قطاع الكهرباء يشكل نسبة تتراوح بين 40 الى 50% من قيمة الفاتورة القديمة، وبما أن المبلغ بالليرة اللبنانية وانخفضت قيمتها (98%)، لم يعد لتلك الأموال قيمة فعلية بالدولار،عدا عن أن الدولة لا تستطيع اليوم تحصيل حقوقها، فكيف ستحصّل الحقوق التي فاتت؟ وفي حال تمّ تحصيل كامل القيمة السابقة المهدورة لم يعد لها قيمة، والسارقون استفادوا من فارق العملة، علماً أن نسبة 50% مما دفع ذهب هدراً على مخيّمات والسوريين والفلسطينيين ومؤسسات الدولة والمواطنين الذين لا يدفعون فاتورة الكهرباء.
إخبار أمام النيابة العامة التمييزية
كتلة الجمهورية القوية، حقّقت خطوة في هذا السياق، اذ تقدّمت بإخبار أمام النيابة العامة التمييزية مستندة الى تقرير «الفاريزاند مارسال» الذي ذكر كمية الأموال التي صرفت لصالح وزارة الطاقة ومؤسسة كهرباء لبنان، ويقول النائب رازي الحاج لـ»نداء الوطن» إن ذلك جاء في إطار المحاسبة والمساءلة. وقتها كان مدّعي عام التمييز القاضي غسان عويدات طلب ترجمة التقرير للمباشرة بالتحقيقات المطلوبة، فيما وزير العدل يهتمّ بهذا الموضوع كي تنتهي الترجمة، استغرقت القصّة وقتاً، ولكن التكتّل لا يزال يتابع هذا الملفّ».
وأضاف الحاج: «فضلاً عن ذلك وجّهنا أكثر من سؤال الى الحكومة في هذا الإطار، ونمارس عملنا البرلماني على قدر واسع. وفي الوقت نفسه نطالب بتطبيق قانون الكهرباء لأن عدم تنفيذ القانون هو الذي اوصلنا الى ما نحن عليه اليوم.»
القضاء ايضاً مسؤول
وبدوره اعتبر النائب ابراهيم منيمنة رداً على «نداء الوطن» عن أسباب عدم تعيين لجنة للتحقيق في هدر أموال الكهرباء، أن التحقيق النيابي ممكن، ولكن لا بدّ هنا من الإشارة الى أن القضاء أيضاً مسؤول بسبب وجود تجاوزات في موضوع التلزيمات وتجاوز هيئة المناقصات بموضوع البواخر، وعدم وجود مجلس إدارة لفترة في مؤسسة كهرباء لبنان. وبذلك فإن علامات استفهام عدة تطرح عن الفساد في القطاع، ولكن المسألة الأهمّ تكمن في الدور الذي يجب أن يلعبه القضاء في ملاحقة الفساد». مشيراً الى أن «ملفّ الكهرباء متشعب وله تاريخ طويل ويجب تشكيل لجنة لمتابعة مساره. وحول الحلول المطروحة اليوم في هذا القطاع، قال منيمنة:
إصلاح القطاع
بداية إصلاح الكهرباء تبدأ بتطبيق القانون رقم 462 الذي يقسم بين الإنتاج والنقل والتوزيع، وينص على ضرورة تشكيل هيئة ناظمة للكهرباء، اذ أن غياب الهيئة الناظمة هو من تسبب بالفساد. فالصلاحيات محصورة بيد وزير الطاقة الذي يتجاوز مؤسسة كهرباء لبنان ويتخطّى مهامه كوزير وصاية، ومن تلك الهيئة يبدأ الإصلاح». أما بالنسبة الى موضوع تنظيم القطاع ككل، فأشار منيمنة الى أن «الأمر يتطلب جلسات والغوص في التفاصيل لناحية موضوع التعرفة بالدرجة الأولى التي كانت منخفضة وأدت الى نوع من هدر للمال العام، فدعم الكهرباء كان بشكل غير منطقي وغير شفاف وساوى بين الغني والفقير لفترة طويلة، وشكّل هذا الأمر مشكلة كبيرة جداً. ثم هناك موضوع البواخر والتأخر بتلزيم معامل الإنتاج بسبب المحاصصة والنكايات السياسية وصولاً الى الطائفية وعدم تنفيذ القانون 462 /2002».
تدقيق كامل وشامل
أما الخبيرة في شؤون الطاقة كريستينا أبي حيدر فأكّدت خلال حوارها مع «نداء الوطن» ضرورة قيام تدقيق كامل وشامل في ملف الكهرباء. وقالت إن «التدقيق لا يجب أن ينحصر فقط في مؤسسة كهرباء لبنان وإنما في وزارة الطاقة أيضاً باعتبار أن صفقات عدة تمّت داخل الوزارة. وحمّلت الوزارة ومجلس الوزراء ومجلس النواب مسؤولية الهدر الذي حصل في قطاع الكهرباء. كلّ المسؤولين متورّطون لذلك يتهرّبون من فتح ملف التحقيق. كانت السلف للكهرباء تتطلب موافقة مجلس الوزراء الذي يقدمها من خلال قوانين تُدرج في الموازنة سنوياً.
وكان مجلس الوزراء يعدّ السلفة ومجلس النواب يقرّها ومصرف لبنان يعطي الأموال ووزارة الطاقة تنفقها. لذلك لا أحد سيحاسب احداً، لأن الكل مسؤول.
والسلفة بمفهومها القانوني يجب إعادتها، وقبل منحها يجب معرفة اذا كانت ستُردّ. عدم رفع تعرفة الكهرباء في العام 1994 يُعتبر سبباً أساسيا في الهدر الحاصل بالقطاع، فحافظت فاتورة الكهرباء على الدعم وبقيت متدنية ولا تعادل قيمتها الكلفة لغاية العام الماضي حينما تغيّرت. الأموال التي كانت تدفع دون الكلفة بكثير، ولذلك من المستحيل إعادة السلف التي كانت تصرف على شراء الفيول».
الهدر نوعان
الى ذلك قسّمت أبي حيدر الهدر الى نوعين: هدر فنّي وغير فنّي.
بالنسبة الى الهدر الفنّي، فهو قائم بسبب قدم المعامل والشبكة. فعند ضخّ نحو 100 ميغاواط على سبيل المثال تُهدر تقنياً كميّة أكبر من الفيول من الكمية التي يجدر استهلاكها. يتلقّى المستهلك نحو 60 او 70 ميغاواط، نسبة الهدر كبيرة وتصل الى 40%، لأن الشبكة الكهربائية قديمة وتتطلب إعادة تأهيل. فضلاً عن الضرر الناجم عن استخدام الفيول اويل heavy fuel oil الذي هو أغلى من الغاز». وسألت أبي حيدر «أين قضية الفيول المغشوش التي فاحت رائحتها وتمّ طيّ الملفّ الخاص بها، فأي قضاء يحاسب؟».
وفي ما يتعلق بالهدر غير الفنّي، قالت «عدا عن أن التعرفة لم تصحّح، هناك مناطق لا تسدّد فواتير الكهرباء، ناهيك عن المؤسسات والوزارات والبلديات التي لا تدفع. فوزارة الطاقة كانت تشتري «فيول» وتنفق الأموال ولا تستطيع الجباية وتسديد النفقات».
فضيحة استئجار البواخر
حتى أنه لم تعتمد الحكومات اي خطط إستثمارية، وكانت سياستها مبنية فقط على شراء الفيول، ولم يتم اعتماد سياسة تعدّد مصادر الطاقة والغاز وتحديث الشبكة وبناء معامل جديدة، أو إعادة تأهيل وتحديث المعامل الموجودة، والأموال التي صرفت على الكهرباء كانت على شراء الفيول وعلى البواخر التي استقدمت للإنتاج. وكلنا نتذكر الباخرتين اللتين استقدمتا الى لبنان لإنتاج الكهرباء والفضيحة التي اثيرت وقتها، فالعقد الذي وقّع مع شركتي البواخر power purchase agreement كانت الدولة بموجبه تزوّد البواخر بالفيول وتدفع كلفة إنتاج الكهرباء، فكانت الكلفة مضاعفة، وبالأموال التي أنفقت على البواخر كان من الممكن بناء معامل جديدة. فمن اين تبدأ المحاسبة؟ ففي العام 2013 أبرمت الدولة اللبنانية ممثلة بشركة كهرباء لبنان مع «كار باورشيب» (الشركة الممثلة لـ»كارادينيز» في لبنان) عقداً لثلاث سنوات يتضمّن مشروع استئجار باخرتين لتوليد الكهرباء هما «فاطمة غول سلطان» و»أورهان بيه» اللتين رستا قبالة معملَي الذوق والجيّة، وأنتجتا نحو 30% من إجمالي إنتاج الطاقة في لبنان. وقد أدى هذا العقد الى خسارة تفوق الـ4 مليارات دولار؟ كان من المفترض في صفقة البواخر أن تكون لتوليد الطاقة العائمة لفترة ثلاث سنوات يتم خلالها البدء ببناء معامل لتغطية الإنتاج المطلوب وتوزيعه بشكل عادل، إلا أنها استمرت لتسع سنوات من دون بناء أو تطوير أي معمل وذلك نتيجة استفادة بعض «النافذين» من الصفقات.
منعوا قيام الهيئة الناظمة
وقالت: «واذا عدنا الى السنوات الماضية وتحديداً الى العام 2002 عندما تمّ اقرار قانون الكهرباء، وقتها كانت الدول الداعمة تقرض لبنان حتى ولو لم يَشرع في تنفيذ القوانين ومعها الإصلاحات، كما حصل في مؤتمر باريس 2. ولكن هذا الأمر إستناداً الى أبي حيدر لم ينطبق على مؤتمر «سيدر» لدعم التنمية والإصلاحات في لبنان والذي أقرّ قروضاً بقيمة 10,2 مليارات دولار وهبات بقيمة 860 مليون دولار، اذ رفضت الدول المانحة إقراض الدولة اللبنانية قبل إنجاز الإصلاحات. ثم البلاد دخلت في دائرة الإفلاس منذ العام 2017 بسبب عدم ضخ أموال الى أن انفجر الوضع وبدأ الإنهيار المالي في العام 2019. فلو بدأنا بالإصلاحات وأوّلها قطاع الكهرباء لاستطعنا الحصول على أموال «سيدر». المطالب الدولية للإصلاح تمحورت على تعيين الهيئة الناظمة في 3 قطاعات: الكهرباء والإتصالات والطيران».
واضافت: «السلطة السياسية تهيمن على قطاع الكهرباء وكل 3 سنوات يضع وزير طاقة سياسة للكهرباء لا تلامس الواقع الحقيقي ومتطلبات البلد، لأنه يقارب الأمور من الوجهة السياسية. فالهيئة الناظمة تضرب كل تلك الصلاحيات التي هي بيد وزير الطاقة ومجلس الوزراء باعتبارها هيئة مستقلة. اليوم وزير الطاقة طالب بتعديل عدد اعضاء الهيئة الناظمة لتكون 6 للميثاقية الدستورية والتمثيل الطائفي، الأمر غير المذكور في الدستور (بدلاً من 5)، مشدّدة على أنه لا نيّة سياسية للإصلاح وتعيين هيئة ناظمة.