الجميع ينتظر حلولَ شهر آذار الذي يحتضن استحقاقين كبيرين سيتأثّر بهما لبنان مباشرةً.
الحدَث الأوّل يتعلّق بالانتخابات الإسرائيلية والنتائج التي سترسو عليها. ولم يعُد سرّاً الدخول المباشر للإدارة الأميركية في مسار هذه الانتخابات بغية تقويض طموح بنيامين نتنياهو للعودة مجدّداً رئيساً للحكومة المقبلة.
صحيح أنّ النظام النسبي الذي تجري وفقَه الانتخابات الإسرائيلية لا يمكن إلّا أن يؤدّي إلى تأليف حكومة ائتلافية من أحزاب عدّة لضمان الغالبية المطلوبة، إلّا أنّ واشنطن تريد نتيجةً تُحَجّم الكتلة النيابية لنتنياهو وبالتالي تأليف حكومة من الوسط واليسار. لذلك أرسلَ البيت الأبيض فريقاً من المتخصّصين في الحَملات الانتخابية إلى إسرائيل للتأثير في مسار الانتخابات.
وفي المناسبة، لاحَظ كثيرون تدخّلَ «داعش» لصالح نتنياهو في تنفيذ عمليات إرهابية ضدّ اليهود في أوروبا، ما أعطى نتنياهو مادةً إنتخابية دسمة تُحرّك الغرائز وتساعد في حملته الانتخابية التي تقوم على مبدأ حماية الوجود اليهودي المهدّد بالإبادة، وأنّه القادر على ذلك.
والمعروف أنّ نتنياهو سيسعى للشغَب على التفاهم الأميركي – الإيراني، إنْ سياسياً في الداخل الأميركي، أو أمنيّاً على رقعة الشرق الوسط، والساحات عديدة، ولبنان إحداها.
أمّا الحدث الثاني فهو توقيع، ولو بالعناوين العريضة، الاتفاق الأميركي – الإيراني تحت عنوان الملف النووي. صحيح أنّ العاصمتين الأميركية والإيرانية تعيشان أجواءَ قرب توقيع الاتّفاق لكنّ الحذر لا يزال سيّد الموقف خشية افتعال الأطراف المتضررة أحداثاً كبرى غير متوقّعة تؤدّي إلى تأجيل التوقيع إلى أجل غير مسمّى. ومن المفترض أن يتزامن التوقيع مع إغلاق صناديق الاقتراع في إسرائيل، وليس اكتشافاً أنّ لولادة هذا الاتفاق نتائجَ مباشرة على كامل الشرق الأوسط، بما فيه لبنان.
لكنّ هذين الاستحقاقين لا يختصران كلّ الأحداث القادرة على التأثير في الساحة اللبنانية. ففي اليمن صراعٌ كبير استبَق توقيعَ الاتفاق الأميركي – الإيراني، وتزامنَ مع الفترة الانتقالية التي تعيشها السعودية على مستوى الحُكم. فاستيلاء الحوثيين على صنعاء وَلّدَ غضَباً سعودياً، إذ أصبحَت إيران داخل الحديقة الخلفية للبيت السعودي ومن خلال ثوب شرعي. وعلى سبيل المعلومات فإنّ ثلثَي اليمنيّين يعملون ويعيشون في السعودية.
وبين احتمالات الحرب الأهلية وتمدّد نفوذ «القاعدة» على أساس الدخول في حرب استنزاف واسعة مع الحوثيين، رفضَت الرياض أيّ تسوية سياسية تشبه التسوية التي حصلت في العراق. فالحوثيّون أبدوا للوسطاء الدوليّين موافقتهم على تسوية سياسية لكنّ السعودية ترفض منحَهم حصة سياسية تفوق حجمَهم الشعبي الذي يقارب 20 في المئة من السكّان.
الأهمّ أنّ السعودية تتمسّك بآخر ساحتين: اليمن ولبنان. من هنا خطاب الرئيس سعد الحريري ومن ثمّ خطاب السيّد حسن نصرالله، ولو أنّ الأخير تعمَّد عدمَ الرد المباشَر على كلام الحريري ملمِّحاً إلى أنّ المنطقة ذاهبة في اتّجاه تغييرات جذرية تصيب خريطة الشرق الأوسط الجيوسياسية.
ولا تحتاج المسألة إلى قراءة معمَّقة للاستنتاج أنّ التباعد كبيرٌ بين السعودية وإيران، ومن خلالِهما بين «المستقبل» و»حزب الله»، على رغم الحِرص على استمرار الحوار ولكن بأيّ نتيجة؟
قبَيلَ وصول الحريري إلى لبنان كان الرأي السائد أنّ إقامتَه قد تطول. لكنّ الرأي تبدّلَ بعد خطاب نصرالله حيث لمسَ من خلاله التباعدَ، لا بل التناقض في النظرة العامّة.
قد تكون أبرز النقاط تلك المواجهة المقبلة في فصل الربيع في البقاعين الشمالي والأوسط، إضافةً إلى عدم الرهان على توقيع الاتفاق الأميركي – الإيراني لتمرير الاستحقاق الرئاسي، وبالتالي التمسّك بالعماد ميشال عون مرشّحاً وحيداً.
في المقابل، فإنّ الحريري الذي التقى عون أمس تحدّثَ بلغةٍ أوضح عن تراجع حظوظ عون في هذا الاستحقاق، وبالتالي وجوب البحث عن مخرج لهذا المأزق.
وكان قد سبق ذلك تراجع الآمال المعقودة على الحوار بين عون والدكتور سمير جعجع، ذلك أنّ الأخير الذي سافر فجأةً بداية الشهر الجاري، ما أدّى إلى تأجيل موعد اللقاء المفترَض بينهما إلى حين عودته، طلبَ منذ يومين تمديدَ مدّة التفاوض لإنجاز بعض النقاط الإضافية، على رغم أنّ الاعتقاد السائد كان بأنّ الاجتماع سيحصل منتصف هذا الأسبوع.
ومعها بدا لعون أنّ جعجع يناور بهدف كسبِ الوقت للوصول إلى آذار وتوقيع الاتفاق الأميركي – الإيراني، ما سيفتح باب التسويات في شأن الرئاسة، عندها يزور الرابية فاتحاً بابَ النقاش للتفاهم والتشارك في اختيار اسم مرشّح التسوية، «لأنّ المناخ الإقليمي أصبحَ ضاغطاً والوقت سبَقنا». ما يعني في الخلاصة استحالة التفاهم بين عون وجعجج على الملف الرئاسي، وقد وُضِع «حزب الله» في هذه الأجواء.
من هنا باتَ العديد من المحافل الدولية يقرأ في موقف «حزب الله» من الملف الرئاسي اللبناني دفعاً للأمور إلى مزيد من التعقيد، وبالتالي تفاقم الأزمة الداخلية كمدخل لسلوك درب المؤتمر التأسيسي. فالظرف الإقليمي والدولي ملائم بعد التفاهم الأميركي – الإيراني، ما يعطي توقيتاً ممتازاً للدخول في مسار ولادة «الجمهورية الثالثة».
وقد يكون هناك خيطٌ رفيع ربَط في خطاب نصرالله الأخير بين الأفق المقفَل للاستحقاق الرئاسي وبين التغييرات الكبرى التي تنتظر المنطقة وتؤثّر في صورتها المستقبلية، ولبنان إحدى هذه الساحات.
على رغم ذلك، لا تزال أوساط ديبلوماسية أميركية مقتنعةً بأنّ الرهان على المجهول قد يؤذي كثيراً من الأطراف. فلبنان رئة للنظام السوري ليتنفّس من خلالها، والدولة اللبنانية مِظلّة ملِحّة لـ«حزب الله» لكي يحتميَ بها.