لم يأت وقت على لبنان وهو بهذا المستوى من الانحدار والتردي. لبنان في طوره الراهن ليس خارج الهاوية بل في وسطها، ومهدد بالسقوط منها إلى ما هو أسوأ وأكثر انحداراً. هو مهدد، مثلا، بالانحدار من الفراغ إلى العدم، ومن الشلل إلى الانهيار، ومن الفوضى إلى التشظي، ومن غيبوبة مؤقتة إلى موت مقيم على حافة الحياة.
لم تكن الحرب الأهلية التي عاشها اللبنانيون أشد وطأة مما هم فيه اليوم. لقد خبروا أطوارها وأحوالها، فاستطاعوا التعايش معها والتحايل عليها والرهان على نهاياتها؛ فيما الواقع اليوم خناق يضيق، وأفق مشرع على كل ما هو أعظم، ولا رهان لدى أحد على نهاية للخروج من المشهد القاتم بكل مآسيه. فلبنان عاش الحرب بويلاتها، لكنه بقي ببعضه خارج مفاعيلها وارتداداتها. أما اليوم، فلا شيء من لبنان خارج الويلات، وهو يدفع أثمان حروب حصلت وأخرى لم يحن بعد أوان استعارها. الحرب بالأمس قتلت البعض ولم تقتل الكل، في حين أن الجميع مهدد اليوم بالقتل تحت وطأة الفساد والانهيار والدين والأوبئة المحمولة على أثير النفايات. الحرب أتاحت للبعض الدفاع عن نفسه بوجه الآخر المعتدي، بينما اليوم يفتقد الجميع صنعة الدفاع عن الذات بوجه المعتدي الزاحف من كل صوب، والقادر على التشكل بألف شكل. في الحرب كان الناس يستغلون وقف إطلاق النار والمعابر الآمنة والنزوح هربا من الموت، أما اليوم فلا عبور آمنا إلى أي اتجاه، ولا مكان أمام اللبناني ينزح إليه، كما ليس هناك مكان يصلح للحياة حيث يقيم داخل الوطن.
كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة، هكذا قال المتصوفة العارفون. عكس ذلك يصح أيضا على الواقع اللبناني؛ حيث كلما ضاقت الرؤى اتسعت العبارات، وعظاً وتنظيراً، على لسان المسؤولين الذين «يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم». يعتقد «المناطقة» أن البديهيات هي أكثر الأشياء وضوحاً في مقام الثبوت والأكثر تعذراّ في مقام الإثبات. واقع الحال أنه لا عبارات تفي لبنان حقه في توصيف حاله المتسع انحلالاً ومأساوية، كما لا بديهة أوضح ثبوتاً وأصعب إثباتاً من نفاق المسؤولين الممسكين بمفاصل الدولة ومصائر العباد.
انعدام المنطق هو سيد الموقف في بلاد الأرز؛ حيث يمنع الأخذُ به الذهنَ عن بلوغ الصواب. تغييب المنطق مطلوب تحقيقاً للانسجام بين المكونات المتناقضة وهي تكافح على طريق إلغاء الدولة. انقلاب المعايير القيمية بات سنة متبعة وشعارا يُفاخَر به. فلا قيمة لما يجب أن يكون، وكل ما يجب أن لا يكون فهو كائن. ولا جدوى من كل ما يمكن أن يقال ما دام الواقع بمنأى عن التغيير، وما دام كل قول راجح أقرب إلى كونه من تلاوات مزامير داوود.
كل الابتلاءات التي أصابت لبنان إنما مردها إلى اختلال الوعي في علاقة الناس بالزعيم. هو إله يسبحون بحمده، ويعبد من دون الله، وتقدم له الأضاحي والقرابين. وهم بتبعيتهم له إمعات لا يعقلون ولا يفقهون، وهو ربهم الأعلى الذي إياه يعبدون. إن أخطأ له حسنة واستحسان إلى جانب الدم والروح يفتدى بهما، وإن أصاب له مثل ذلك أيضا. والقاعدة في الأمر أنه إن أصاب الناس ضر فهو من عند أنفسهم، وأما إن أصابهم خير فهو من عند الزعيم.
اختلال القيم على هذا النحو، أنتج كل آفات الاجتماع السياسي في لبنان، فتحولت الدولة إلى مزرعة، والأحزاب إلى عصابات، والقوانين إلى تشريعات محنّطة، والمؤسسات الرسمية إلى واجهات للنهب، والشواطئ إلى أملاك خاصة، والبلد إلى مجمع نفايات، و…