«نعم نحن قلقون إزاء الأوضاع في لبنان للمرحلة المقبلة». بهذه العبارة يُنهي مسؤول في وزارة الخارجية الاميركية كلامه عن الملف اللبناني. في الواقع كانت معظم التوقعات تتحدث عن صيف صعب ينتظر لبنان. لكن، التعقيدات التي تسود ملفات الشرق الأوسط قد ضاعفت من صعوبة الواقع اللبناني.
فالملف النووي الايراني، والذي انتهت التفاهمات التقنية حول بنوده، يخضع لضغوط ومناورات وعضّ أصابع بين طرفيه الرئيسيين واشنطن وطهران. فحسابات كسب النقاط السياسية في منطقة شديدة الحساسية والتعقيد مثل الشرق الاوسط، جمّدت الإعلان عن العودة للعمل بالاتفاق النووي، في ظلّ رهان كل طرف على نقاط ضعف خصمه. فواشنطن تدرك جيداً أنّ ايران تعاني كثيراً من اوضاعها الاقتصادية، خصوصاً بعد دخول النفط الروسي على خط بيعه بالطرق الملتوية وبأسعار مخفّضة، لا سيما في اتجاه الصين، ما ادّى إلى مزيد من تراجع المداخيل الإيرانية. وطهران بدورها تدرك أنّ مرحلة عالمية جديدة قد بدأت بعد حرب اوكرانيا واشتعال أسعار النفط، ما ضاعف من الأزمات الداخلية للإدارة الاميركية الديموقراطية، وهي التي تتجّه الى خسارة أكيدة للانتخابات النصفية. وهو ما يعني في اختصار، أنّ المرحلة هي مرحلة عضّ أصابع ومناورات وشدّ الخناق للحوار السياسي الشائك الدائر في الأروقة الخلفية.
إزالة العقوبات عن الحرس الثوري الإيراني في مقابل التزام ايران بوقف أي نشاط أمني خارجياً تحت عنوان الانتقام لقاسم سليماني. لكن ثمة ما هو أبعد. ففي خلفية الصورة إعادة ترتيب المنطقة بعد الانسحاب الاميركي الجزئي منها. وهو ما يجعل من زيارة الرئيس الاميركي جو بايدن الاولى وربما الأخيرة الى الشرق الاوسط في النصف الثاني من حزيران، مناسبة لرسم رؤية اميركية للشرق الاوسط، توازن بين الانسحاب العسكري والحفاظ على النفوذ، من خلال خطة إعادة توزيع أدوار جديدة.
هذه الزيارة التي باتت تهدّدها التطورات الاسرائيلية الداخلية واحتمالات «تطيير» الحكومة، سيسعى خلالها بايدن لتبديد الصورة السيئة الناتجة من الانسحاب الاميركي الفاشل من افغانستان، وإلى إعادة تعزيز الثقة ببلاده. كما أنّه سيشجع السعودية على الانضمام الى «اتفاقيات ابراهيم» مع اسرائيل.
لكن قبل ذلك، كان على الرئيس الاميركي إعادة إصلاح علاقته مع السعودية. فإعادة المياه الى مجاريها سيضمن ايضاً رفع مستوى الإنتاج السعودي للنفط، وبالتالي إعادة شيء من الاستقرار الى الاسواق، ولا سيما منها الاميركية.
في الواقع، تعاملت الإدارة الديموقراطية بشيء من الغرور منذ وصولها الى البيت الابيض، مع منطقة تشهد تحوّلات ضخمة. فعدا الرفض المستمر لبايدن للقاء ولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان وإعادة إثارة ملف مقتل جمال خاشقجي، مارست واشنطن ضغوطاً كبيرة على السعودية لإنهاء حرب اليمن، من دون الأخذ بمطالب السعودية حول بعض الضمانات المستقبلية حيال أمن السعودية والامارات، لا بل عمدت الى نقل منظومة الدفاع الجوي الاميركي من الخليج الى جنوب شرق آسيا، وهو ما شكّل بداية التراجع في العلاقات بينهما.
في المقابل، فإنّ حساسية ادارة بايدن لا تقتصر فقط على النظرة السياسية الى المنطقة وسعيها لإغلاق الملفات المشتعلة، بل إلى جوانب اخرى لا تقلّ دقة، كمثل الدعم السعودي المستمر للرئيس الاميركي السابق دونالد ترامب من خلال صهره جاريد كوشنر، والرهان على عودته الى إلبيت الابيض. ولاستعادة الدفء في العلاقات الاميركية ـ السعودية سيزور بايدن السعودية، حيث سيلتقي ولي العهد محمد بن سلمان. لكن قبل ذلك ثمة ترتيبات وتطمينات ملحّة تمّ انجازها.
فالقائد الجديد للقوات المركزية الاميركية مايكل كوريلا، والذي تمّ تعيينه الشهر الماضي، قام بجولة خليجية، وكانت محطته الأبرز في السعودية، حيث قدّم رؤية جديدة للتعاون العسكري الاميركي مع السعودية، إضافة إلى التزام ملموس حيال حماية الأمن السعودي.
ومع الحساسية السعودية تجاه تعاطي وزارة الخارجية الاميركية معها، سيجري إيكال مهمّة رعاية العلاقات بين البلدين إلى وزارة الدفاع الاميركية القادرة على درء المخاطر الأمنية عن السعودية.
وفي الوقت نفسه، تمّ التفاهم على إيلاء ضباط سعوديين دوراً في الإشراف على عمليات الأمن البحري شمال بحر العرب وخليج عمان.
كما باشرت اسرائيل وبالتفاهم مع واشنطن، بتوجيه رسائل عسكرية لإيران من خلال مناورات مشتركة تحاكي ضربة جوية على مواقع في ايران. واشنطن تريد ان تقول انّ الخيار العسكري مطروح على الطاولة في حال تدهورت الامور مع ايران واستمرار الجمود في المحادثات النووية. صحيح انّها ليست المرة الاولى التي تحصل فيها مناورات اسرائيلية ـ اميركية مشتركة، لكنها تحمل اليوم تلويحاً بوجود خيارات اخرى في وجه ايران، رغم انّ واشنطن لا تريد الانزلاق فعلياً الى مواجهة عسكرية مع ايران، لكنها تريد إظهار الاستعداد الاسرائيلي لهذه الخطوة، خصوصاً انّ الأزمة السياسية الخانقة للحكومة الاسرائيلية، واحتمال الذهاب الى انتخابات جديدة، يجعلان حكومة نفتالي بينيت تبحث عن «انتصار» عسكري كبير لاستثماره داخلياً. كذلك ذهبت إدارة بايدن في اتجاه إعادة تصويب علاقتها مع تركيا. فالرئيس التركي إردوغان الذي يعاني من أزمة اقتصادية، وهو المتجّه الى انتخابات صعبة ومهدّدة في حزيران 2023 وفق الاستطلاعات، يريد استعادة علاقته المميزة مع واشنطن وتوثيق علاقة بلاده مع الدول الأكثر ثراء، من اجل جذب استثمارات جديدة. وجاءت فرصته مع حرب اوكرانيا، حيث استعادت تركيا أهميتها ودورها المحوري. ويتردّد في واشنطن عن صفقة اسلحة اميركية مع تركيا لتعزيز قوتها الجوية، بهدف توجيه رسالة ردع الى روسيا. لكن الدور التركي سيكون مفيداً لواشطن في سوريا ايضاً، حيث تقوم روسيا بنقل بعض قواتها من سوريا الى اوكرانيا، فاسحة المجال أمام ايران لملء الفراغ، ولو من دون تسجيل استقدام قوات ايرانية اضافية.
وروسيا تلوّح من خلال ذلك بمخاطر ترسيخ إيران نفسها في سوريا، وبالتالي زيادة قبضتها على لبنان.
هي الصورة المتشابكة والضغوط المتبادلة، والتي رفعت من منسوب الاحتجاجات الداخلية في ايران على وقع الأزمة الاقتصادية، واحتمال فتح الساحة التركية أمام مخاطر حصول عمليات أمنية، خصوصاً بعدما اشترطت واشنطن على أنقرة الابتعاد عن حركة «حماس».
وفي سيناء، تنظيم «داعش» الارهابي يتحرك بدوره ويتحدّى مصر الساعية إلى دور اقليمي أوسع يبدأ في غزة ويمرّ في الاردن وسوريا وقد لا ينتهي في لبنان.
هذه الاهتزازات والاضطرابات تعني انّ أمام لبنان اسابيع لا بل اشهراً عصيبة، وهو ربما ما قصده المسؤول في وزارة الخارجية الاميركية لدى قوله بأنّه قلق إزاء الاوضاع في لبنان.
الأرجح انّ الأزمة السياسية ستتفاقم، لا سيما حول تأليف حكومة جديدة. النائب جبران باسيل طالب بحكومة سياسية ليكون هو أحد اعضائها ويتسلّم وزارة الخارجية مجدداً. لكن هنالك من يقرأ في دعوته أبعد من ذلك، وهو سعي «حزب الله» إلى طرح الحكومة السياسية ليعود اليها مباشرة وليس مواربة كما حصل منذ ثورة 17 تشرين. وهذا ما لا يستسيغه الاميركيون.
وبالتالي، فإنّ الولادة الحكومية ستكون متعذّرة، ومعها لن تكون هنالك مساعدات للبنان، وحتى الكهرباء ستزداد سوءاً، إلى جانب انهيارات جديدة للعملة اللبنانية، وبالتالي ازدياد حال المعاناة المعيشية. وهذا الاتجاه الانحداري قد لا يوقفه سوى إعادة تركيز الصورة الإقليمية، ما سيسمح للفرنسيين بإطلاق مبادرتهم تجاه لبنان، والتي يحضّرون لها بالتفاهم مع الاميركيين. وقد يكون الانزلاق اكثر في اتجاه الانهيارات الطريق الملائم ربما، امام ترتيب التسويات لاحقاً. وهو ما يعني انّ لبنان سيكون في صلب سياسة عضّ الاصابع الدائرة في المنطقة.
وثمة مؤشر إضافي لا يبعث على الارتياح، ذلك انّ شركة «توتال» أنجزت برنامج عملها حتى العام 2024. ولم يلحظ هذا البرنامج أي نشاط لها في المياه اللبنانية. ربما على لبنان البقاء في انتظار الاتفاق النووي الاميركي ـ الايراني، لكن الانتظار في جهنم حارق وصعب جداً.