الذين ولدوا العام 1975 أصبحوا اليوم في الأربعين. إنهم نشأوا في الساحة، حضروا الحروب والاحتلالات وتلاقي الجيوش والميليشيات والوفود الدولية والعربية، وأصبحوا اليوم في عزّ عمر النضج، يتفرّجون على لبنان هذا، الذي انتقل الى أيديهم وهم لا يعرفون ماذا يفعلون بهذا الوطن الذي كان عند ولادته مستقراً للنار، وهو اليوم مزنّر بالنار.
روى هنري كيسنجر في مذكراته (سنوات الصعود) أنه سعى جاهداً أثناء حروب لبنان الى حصر النار فيه وليس إلى إطفائها، حتى لا تنتقل الى دول الجوار. كانت تلك رؤيته، تلك سياسته، لا يهمّه عدد الذين قضوا والذين هاجروا والذين يئسوا واستسلموا، كما هو الحال في سوريا اليوم. فالسياسة الباردة لا تأخذ بالحسبان مصالح الشعوب. وموفده دين براون عرض في اجتماع له في المقر الرئاسي المؤقت في ذوق مكايل العام 1976 ترحيل المسيحيين.
هذا الجيل الأربعيني لم يعرف لبنان الآخر، ولا الجيل الذي جاء بعده. ما زال لبنان الآخر ذاك يطلّ بوجهه عنيداً متململاً محاولاً العودة من جديد. وما زال الذين عرفوه وعاشوه وآمنوا به يُصرّون على القول إنه ليس من بديل عنه. فالوقائع، لعلها تساعد المشككين، ولكنها لا تقود الى لبنان بديل. فهل هنالك من لبنان بديل؟
طوال أربعين عاماً توالت معاول الهدم على الصيغة والتجربة والميثاق والعيش الواحد والنموذج والاعتدال والانفتاح وقبول الآخر، وكل ما مثلته التجربة اللبنانية في فكر المنظّرين ومواقف المؤسسين. طرحوا البدائل في بداية الحروب. وضعوا تصوّرات تقسيمية وفدرالية. كتب بعضهم دستوراً فيدرالياً. ولا يزال هنالك اليوم من يدعو الى مثل ذلك، عبر أفق ضيّق وفكر لا يعترف إلا بالمحيط المباشر الذي يعيش فيه، متجاهلاً أن مثل هذه الحلول تؤذي قضيته أكثر من العواصف التي تحيط بلبنان. فضلاً عن أنه ما من تصوّر جدّي أو واقعي قدّم أو يمكن أن يقدم بهذا الخصوص.
طوال أربعين عاماً لم تهدأ العواصف، أو أنها لم تهدأ كلياً. فالأمن السوري لم يكن حالة طبيعية حتى يُبنى عليه تاريخياً، لأنه لم ينتج سوى مختلف الكوارث. والدولة القادرة والضامنة للجميع لم تنشأ، وذلك بفعل سوء تفاهم يبدو أنه يهدد أساس التفاهم الأصلي، لجهة إصرار البعض على مد ما يراه من مصلحة لبنانية إن الى خارج الحدود، وإن الى محور نبّه الى خطورة مثله، الآباء المؤسسون منذ اللحظات الأولى، كما في بيان رياض الصلح الاستقلالي. فلبنان المنخرط في المحاور هو نقيض الفكرة التي بررت نشوءه.
لكن الظروف الإقليمية المنعكسة حتماً على لبنان، منذ المأساة الفلسطينية وذيولها التي تفجّرت العام 1975 الى تهديدات «داعش» التي يظهر لبنان أنه عدوّها الأول بحكم كل ما يمثله، والى الحدث اليمني الذي طرأ علينا من ضمن الصراع الإقليمي الكبير، هذه الظروف الخارجية المتتالية والمتراكمة ماذا يقابلها في الحقيقة في الداخل، إذا تجاوزنا الانقسامات السياسية المرافقة للعوامل الإقليمية.
ليس في لبنان أزمة كيانية مثلما هو الحال في العراق أو سوريا. في لبنان ما من أحد يريد الانفصال عن الآخر. فهذا ليس بالقليل في زمن تفكك الكيانات واتجاه سوريا نحو المجهول، والعراق الى صيغ لم تتركّز بعد. قد يكون مرد ذلك الى عوامل لبنانية بحتة، مثل محدودية المساحة إزاء المساحتين السورية والعراقية، ومثل الاختلاط في جميع المناطق، الذي، وإن ضرب في سنوات الحروب وأدى الى نزوح متجانس في بعض المناطق، إلا أن الغالبية الساحقة من المناطق والمدن لا تزال مختلطة، ولا يزال هنالك إصرار من قبل الجميع، على المحافظة على هذا الاختلاط.
ربما هنالك توجّه من قِبَل البعض لإعادة تقويم المشاركة في الحكم من خلال المحاصصة أو الصلاحيات أو إعادة النظر ببعض أحكام الدستور أو بـ «اتفاق الطائف» أو بالطائفية السياسية أو من خلال بما بات يُعرَف بالمؤتمر التأسيسي، فهي كلها موضوعات ليس على أيّ منها اتفاق. وهي بالتالي سوف تبقى مطروحة للنقاش، من دون أن يكون هنالك فرصة جدية للاتفاق على أيّ منها. هذا فضلاً عن موضوع سلاح المقاومة، وهو عقدة العقد.
لبنان سوف يبقى بلداً مختلطاً في أي حال من أحوال منطقة الشرق العربي. هذا محكوم على جميع الطوائف ومنذ أجيال. ونظام الحكم انبثق من هذا المعطى التاريخي وليس العكس. والجميع يعرف ذلك. والأطراف المستقوية حريصة على لجم استقوائها لأن الغلبة لا تساعدها ولا تنفعها، إذ لا يمكن لأي مستقوٍ أن يفرض قواه على جميع الآخرين. سر لبنان، ميزته، فرادته أن هنالك الآخر، وهو أكثر من جهة. ليس في لبنان كتل دينية موحدة، ولعل في ذلك فسحة لترسيخ التنوع من الناحيتين البشرية والفكرية.
أما التهديدات التي طاولت المسيحيين في العراق وسوريا، وحتى في مصر، وبالرغم من أنها ساورت قلق مسيحيي لبنان، إلا أن ظروف كل من سوريا والعراق، فضلاً عن مصر، مختلفة عن ظروف لبنان. فالحديث عن مسيحيي الشرق ككتلة واحدة، سهّل على المحللين، ولكنه غير واقعي بالنسبة الى كل بلد. وقد تبيّن أن مسلمي لبنان مجمعون على الوجود المسيحي، ليس فقط لفائدة الاختلاط وثرائه، بل لأنه يتعذّر على أي طائفة من الطوائف السيطرة على الآخريات باسم أي اعتبار كان.
فهل هذا الواقع البشري ـ السياسي هو مصدر قوة أم ضعف؟ هل يستنتج من سلبية هذا المعطى قوة بنيوية أم قوة رادعة؟
فبقاء لبنان في منأى نسبي عن خراب كل من سوريا والعراق بشكل يعيد طرح الأسس التي قامت عليها، له دلالات عديدة، من أبرزها حرص الجميع على الحوار، بالرغم من التباينات الأساسية. الخلاف هو على الخارج، ولكن مع الحرص على إبقاء البيت الداخلي مصوناً. فهذا تسليم من قِبَل الجميع. فالعبث بالبيت لا يوفر أحداً.
وفي الإطار ذاته، أدرك الجميع أهمية الحرية حتى وإن تحوّلت بعض الشاشات الى منابر لتعزيز الانقسامات. فكما أن الاختلاط مفروض منذ أجيال ولا مجال لتغيير معادلاته، فكذلك النظام الحر، ولو بمشوّهاته. تحوّل الشرق العربي مراراً، وتوالت الانقلابات والأنظمة العقائدية والمستبدة، وبقي لبنان في منأى عن العدوى، حتى وإن استباحته تلك الأنظمة وتسببت له بالكثير من الإيذاء. إذ لا يمكن للبنان أن يكون نظامه عقائدياً في أي حال من الأحوال، وبرنامج الحكم فيه لا يخرج عن إطار النصوص الدستورية وبرامج عمل الحكومات.
تبقى المشوّهات بالطبع، وهي عديده وأبرزها استغلال المحاصصة الطائفية للمصالح الشخصية، والتبرم بنظام الحكم. فالفساد شيء، ونظام الحكم هو شيء آخر. فأي نظام بديل يصلح للبنان على ضوء تنوّعه البشري القائم، والذي يمكنه إيصال الجميع الى حقوقهم، مع واجباتهم. وقد دلت قضية حقول البترول والغاز البحرية الى أي درجة وصل الجشع المعلن لبعض أصحاب القرار، والذي يضرب مبدأ القدوة من أساسه، والفضائح المتتالية لا تفضح أحداً ولا تهز أحداً أحداً في مركزه. فهل إذا تغيّر النظام يتعطّل الفساد؟
الإصلاحات المطلوبة ليست في النصوص، فهي تعدلت ويمكن أن تعدّل من ضمن تسليم الجميع بالنظام الديموقراطي والحريات العامة والعيش المشترك وعروبة لبنان. إذ لا يجب الالتفات الى النصوص عندما تكون الممارسة خاطئة. والممارسة خاطئة اليوم. خاطئة في الولاءَات التي تتجاوز الحدود، خاطئة في التساؤل عن معنى لبنان والسؤال المذنب عن «أي لبنان نريد؟»، بعد مئة عام على نشوئه. خاطئة في التقصير عن حماية تجربة فيها مصلحة الجميع من دون استثناء. خاطئة في تعطيل الحياة الدستورية التي فيها ضمانة الجميع، وعدم الحرص على تعزيز الدولة التي هي ملاذ الجميع. ألم نعرف في تاريخنا الطويل ما يكفي من دروس لكي نحمي أنفسنا أولاً؟