من بواكير جنى قانون الانتخابات الذي اعتمد النسبية، هذا الدوران بين ملفّات المطالب والشروط التي تعرقل سير عجلة المركبة الحكومية. نظرة أولى على ما كان عليه الوضع التمثيلي الطائفي والمذهبي قبيل اعتماد قانون النسبية، وبين صورة الوضع ذاته حالياً، بعيد صدور نتائج الانتخابات، تكشف عن هشاشة متزايدة أصابت عملية صنع التوازنات الداخلية. لقد كان الأمر منوطاً برؤوس سياسية أقل عدداً، وبات الآن رهناً بتبريد رؤوس متناسلة، ضمن المذهب الواحد، وبين كل طائفة وسواها من الطوائف. هذه اللوحة لا تدلي ببيان ديموقراطية أكثر، أو توحي بتحقيق «تمثيلية» أعمق، بل إن اللوحة تعيد رسم قسمات الانقسام اللبناني بريشة حادة وتلونها بألوان نافرة، بعد أن تكفلت ريشة القسمة العريضة الماضية بتغطية بشاعة عدد من هذه القسمات.
ما تقدم ليس مرافعة في مصلحة النظام الانتخابي الأكثري الذي قيل أنه إقصائي، بل هو إشارة إلى واقع الحال الفعلي الإقصائي الأكثر وضوحاً، الذي انطوى عليه ما قيل أنه نظام انتخابي عادل. وفي مقام الإقصاء، لنقل أن هندسة نظام الانتخابات قامت على خطوط فصل إقصائية مسبقاً، وعلى خطوط استبعاد «تفضيلية» سلفاً، ولم يغب عن ذهن التكتلات الكبرى تكتيك اعتماد كل السياسات الاستنسابية والاعتباطية التي تضمن نجاح هذه السياسات. على ذلك لم يكن مقدراً للنتائج أن تكون هادئة بين أهل البيت الطائفي الواحد، واستطراداً، كان من الطبيعي أن تكون على استنفار حيال أهالي البيوت الطائفية الأخرى.
في سياق قول «يبنى على الشيء مقتضاه»، يدور تأليف الحكومة بين كواليس الإقصاء الطائفي المتبادل، وخلف أبواب النبذ الداخلي ضمن سور كل طائفة على حدة، ولا يستطيع الرئيس المكلف، سعد الحريري أن يبخس رأساً من الرؤوس الوافدة حقه، وعليه أن يحسن تقديم جوائز الترضية، أو الحصة الأكبر من الغنيمة الداخلية، إلى «المقدمين الأوائل»، في كل طائفة، وأن يدرك تماماً، وهو مدرك، أن شراء صمت المقدّمين خارج أسواره، يعينه على شراء الصمت من أولئك الباعة ضمن داره.
في الأثناء تدور رحى حرب البيانات بين قيادات التوليفة الأصليين حول الأخطار الداهمة التي تقتضي الإسراع في تشكيل الحكومة الجديدة، وتعلو أصوات التمسك بالسياسات التي تحفظ المصالح الوطنية العامة… وفي الأثناء ذاتها لا يخفى على من لديه نظرة عادية إلى ما يدور خارج حفلات الكلام، أن ذات المتكلمين هم ذات المفرّطين بكل المصالح الوطنية، وهم ذات غير المؤتمنين على بناء استقامة حياة اللبنانيين في مصالحها المختلفة، اجتماعياً واقتصادياً واندماجاً ولحمة بينية.
في امتداد ما يقدمه اللاعبون الطائفيون الأوائل من مداخلات تطاول كل الشؤون المصيرية اللبنانية، لا يجدي الوقوف موقف المتفرج من هذا الأداء، ولا يفضي إلى نتيجة الركون إلى التعليق السلبي على سلوكات من سُلِّمت إليهم مقاليد سياسة البلد، بل إن الموقف البديهي المطلوب هو موقف السجال النقدي الذي يكشف سوء الإدارة السياسية لمجمل النظام الطائفي ولأقطابه، والذي يزيح أستار التعمية والتمويه والزيف عن حقيقة السياسات التي يعتمدونها في مواجهة ما يقولون إنه الفساد والعجز الاقتصادي ولبنان القوي والجمهورية القوية والإنماء والتحرير… وكل ما تنطوي عليه حكاية السيادة اللبنانية. في هذه المجالات يجب تكرار المكرر الذي يعيد إنتاج سردية المعاناة التي يتداولها اللبنانيون في مجالسهم الخاصة، ولا ينزلون تحت لواء مطالبها إلى الشارع، تبنى أحجام المعارضة الحقيقية، وحيث يبنى تباعاً مسار التغيير. كتأكيد للمؤكد، حيث يبدأ الفساد من رأس هرم النظام السياسي اللبناني، ولا نبالغ إذ قلنا أن النظام يعوم على ملفات فساد في السياسة وفي الاجتماع وفي مضمار الأمانة على مقدرات اللبنانيين، وعلى سبيل الملاحظة، لقد بنى النظام الفاسد شبكة فساد امتدت من أعلى إلى أسفل، مما شكل عامل أمان يحافظ عليه ويدافع عنه، جمع من المنتفعين الذين تغذيهم سياسة الزبائنية السياسية. استطراداً، ليس للفساد أن يبني اقتصاداً، وحصيلة عقود من سياسات ما بعد الاستقلال اللبناني تؤكد ذلك، أما حصيلة عقود ما بعد اتفاق الطائف، فإنها تدل بالأصابع على رعاة سياسة الانهيار الاقتصادي المتمادي، هؤلاء الذين لا يجدون غضاضة في رهن البلد سياسياً للخارج بدعاوى السيادة أو بدعاوى مشاريع الممانعة والمقاومة، ولا يتورعون عن جعل لبنان مجدداً ساحة لتصفية الحسابات ولتعديل التوازنات الخارجية على حساب الداخل اللبناني، ولنقل في هذا المقام، إن الفساد السياسي هو أصل كل فساد.
الفاسد السياسي محميُّ ومرعيّ، وهذا ما يـــوفر له أسباب الديمومة والاستمرار والإثـــراء غير المشروع… طالما أنه يقفز من فوق رأس الداخل محمولاً على أجنحة الديماغوجيا المافوق وطنية، أو المافوق قوميــــة. وكي لا تضيع المسؤولية عن النقد، وعـــن تحديد مواضيعه وعن المبادرة إليه: الديموقراطيون واليساريون والعلمانيون وسائر المتضررين من الواقع الراهن، هم المطالبون بجرّ النقاش السياسي الفعلي إلى ميادينه الحقيقية. مع حكومة، ومع بيان حكومي، ومع أداء وزاري… ما زالت خيوط اللعبة في أيدي المسؤولين عن التــلاعب بكل المقدرات الوطنية. على ذلك يكون التصويب ورمي أفكار السجال.