على وقعِ استمرار لغة النار والبارود والمَدافع، يقلب كتابُ الثورة السوريّة صفحته الرابعة بعد 4 سنوات على انطلاقتها في 15 آذار 2011، فيما البلدان المجاورة لسوريا وعلى رأسها لبنان، ما زالت تتأثر بتداعيات تلك اللحظة التي غيّرت مجريات الأحداث في المنطقة.
لم تستطع الثورة التكنولوجية، وثورة الإتصالات والمواصلات تخفيفَ وطأة المُعطى الجغرافي السوري على لبنان. إنها سوريا، فالناظر الى الخريطة الجغرافية يرى كيف أنها تمثّل الكمّاشة التي تُطبق على لبنان، تلك الجغرافيا التي يحاول اللبنانيون منذ قدم الزمان التحايلَ والالتفافَ عليها، تنتظر بلد الأرز عند كلِّ منعطف تاريخي لتصدّر اليه إرهاصاتها، غير آبهة لما سيحلّ به، وهو الجسم الضعيف الذي يصارع من أجل البقاء.
مفرداتٌ كثيرة إستُعملت من زعماء لبنانيين عبر التاريخ لحرف أنظار المارد الشامي عن لبنان، وأبرزها مقولة شهيرة للرئيس المؤسس لحزب الكتائب الشيخ بيار الجميّل، بأنه «ماذا ينفع لبنان إن ربح العالم وخسر سوريا»، لكن بعد 4 سنوات على إنطلاقة الثورة، ها هي سوريا تخسر نفسها، تتدمّر، تُهدَم، تتفسّخ، ولم يبقَ حجرٌ على حجر، إلاّ أنّ الأخطر هو تدمير الإنسان السوري وجعله جسماً يُقذَف الى دول الجوار، وتفكّر تلك الدول كيف تتخلّص منه وبأسرع وقت.
تعاطف قسمٌ كبير من اللبنانيين مع الثورة منذ إنطلاقتها ومناداتها بإسقاط النظام والرئيس بشار الأسد، لكن بعد 4 سنوات، بشّار لم يسقط، فيما لبنان بلا رئيسٍ للجمهورية والنظامُ اللبناني يواجه خطرَ السقوط، وقد نجحت سوريا في شدّ الإهتمام الدولي إليها، مثلما نجحت بالهيمنة على لبنان طوال الثلاثين عاماً، لكنّه، وفيما تُزال الحدود بين الدول العربية، ويتنقّل المقاتلون وكأنْ لا سيادة، ها هو لبنان يستغلّ اللحظة لتحصين حدوده عبر انتشار واسع النطاق للجيش.
وقدّ انقلب السحر على الساحر، وأصبح لبنان يستطيع أن يطبِّق بعض القرارات التي تصبّ في مصلحته مستفيداً من ضعف النظام السوري، فالسيفُ المسلط الذي كان يرفعه النظام بإقفال الحدود، بات لبنان يطبّقه عبر المعابر الشرعية وغير الشرعية، مانعاً التدفّق السوري اليه بعد قرارات الحكومة في سنة 2014 الهادفة الى شرعنة الدخول السوري والخروج بعدما أرهقه عبءُ النازحين.
وفي خطوة تاريخيّة، كرّس لبنان عرفَ الاستمارة (الأقرب الى الفيزا) بينما كان الدخول والخروج سائباً ولا مَن يسأل، في إشارة الى عودة سيادة الدولة والتعامل مع سوريا من الندّ الى الندّ.
لا يزال عددٌ من اللبنانيين يراهن على انتصار الثورة السورية على رغم أنّ جدران مقاهي الحمرا تشتاق الى المثقّفين السوريين الذين وكعادتهم ومع اندلاع أحداث بلادهم، أتوا الى بيروت هرباً من الموت، وبدأوا النقاش الفكري.
لكنّ غالبيتهم هاجرت بعدما إنحرفت الثورة عن مسارها وسرقها الإرهاب والتطرّف، ودفع لبنان ثمناً باهظاً من خيرة رجاله العسكريين الذين إستشهدوا على الحدود والداخل، ووقع عدد منهم في الأسر بعد معركة عرسال. وقدّ استفاد بلد الأرز سياسياً من المعارك التي انتصر بها الجيش، فظهر جلياً القرار الدولي الذي لطالما حلم به رعاة الفكرة اللبنانية، وقد قالها المجتمع الدولي بالفمّ الملأن، «هناك قرارٌ بتحييد لبنان عن الصراعات الإقليمية».
هذا الإنتصارُ «التحييدي» أتى على طبق من فضّة، فممنوعٌ على «داعش» واخواتها عبورَ الحدود، وقد رُفع في السنة الرابعة من الثورة القرار الأميركي بعدم تسليح الجيش. وعلى رغم قتال «حزب الله» في سوريا، وبعض من التفجيرات التي حصلت في الضاحية والبقاع والحروب في رأس بعلبك وعرسال وطرابلس، فإنّ لبنان يعيش استقراراً نسبياً مقارنة بأوضاع المنطقة.
قد يرى البعض أنّ الحلّ الدائم ليرتاح لبنان، هو تقسيم سوريا وتفتيتها لتضعف ويخفّ تأثيرها فيه، وآخرون ببقائها موحَّدة وإنتصار الثورة أو النظام، لكنّ الآن البحث تخطّى ذلك، بعدما غزا الإرهابُ العالم العربي، وبات همّ اللبنانيين تحصينَ ساحتهم، فلم يعد همُّ «14 آذار» سقوط الأسد، فيما تعلم «8 آذار» أنّ الأسد لن يعود كما كان.
4 سنوات على انطلاقة الثورة السورية، 4 سنوات تعب الجميع وأٌنهك وأُسقطت أحلام دول، وأبرزها حلم عودة القيصرية روسيا، لكنّ هناك شخصاً واحداً لم يتعب، هو ذلك الطفل السوري الذي خرج ينادي بالحرية مواجهاً باللحم الحيّ آلة القتل، لكنّه إستُشهد، وعلى أمل أنْ لا تستشهد الثورة، نتمنّى أنْ لا نطلق على السنة الخامسة من الثورة تسمية ثورة المليون شهيد.