IMLebanon

لبنان من الحكومة الأولى الى بلد بلا رئاسة ولا حكومة

الجمهورية معطلة على أبواب الاستحقاق الكبير

والسياسيون في سباق مجهول حول الدستور كانت الحكومة الاستقلالية الأولى، المؤلفة في ٢٧ أيلول ١٩٤٣ واستمرت حتى ٢ تموز ١٩٤٤ تضم أبرز الوجوه اللبنانية. فقد رأسها الرئيس رياض الصلح، وضمت حبيب ابو شهلا والرئيس كميل نمر شمعون والأمير مجيد ارسلان والأستاذ سليم تقلا والرئيس عادل عسيران.

والحكومة السداسية أرست قواعد السلطة، ومهدت للعصر الاستقلالي، ورافقت رئيس الجمهورية الشيخ بشارة خليل الخوري في الطريق الى وحدة الوطن، الخارج من عصر الانتداب الفرنسي، والعائد من قلعة راشيا الى الاضطلاع بالتبعات والمهمات الرسمية.

وفي بيانها الوزاري، قالت إن العهد الذي دخله لبنان، عهد دقيق وخطير لم يستقبل مثله من قبل، عهد تطلع اليه أحراره زماناً طويلاً، فهو عهد استقلال وسيادة وعزة وطنية، توفرت له العوامل والامكانات التي تجعله استقلالاً صحيحاً، اذا شاء بنوه أن يعملوا على جمع الشتات الداخلي بعزم وفهم لجعل الحلفاء يعترفون بالاستقلال، وفقاً لميثاق الأمم المتحدة.

بعد نصف قرن وبضعة أعوام، يبدو لبنان، وكأنه عاد الى نقطة الصفر. هل صحيح أن عودة الحديث الى السلطة، في عصر يجعل البلاد تعيش تحت أخطار الفيدرالية والكونفدرالية، وترزح في وهاد التقسيم، وراء هموم الأرزاء الطائفية والأنواء؟

ما هي قصة الصراع على الوظائف، وما هي أسباب العودة الى الشحن الطائفي بين المسيحيين والمسلمين، بعدما كانت ارادة الجمع بديلاً من أخطار التفرقة؟

كان الرئيس حسين الحسيني فيلسوف اتفاق الطائف، يقول إن المسيحيين هم ضمانة لبنان، لتجاوز مخاطر الانقسام بين الطائفتين الشيعية والسنية، ورأب الصدع في الكيان اللبناني.

هل يحدث ذلك، والبلاد تستعد لانتخاب رئيس جمهورية جديد، بعد مرور سنة وثمانية أشهر على الفراغ في المنصب الأول في الدولة؟

في مطلع حقبة الثمانينات، اختار النواب الرئيس حسين الحسيني رئيساً للمجلس النيابي، بعد عصر كامل الأسعد الذي أنتج رئاسة سليمان فرنجيه، في عصر تكتل الوسط، وبعده انتخاب الرئيس الشهيد بشير الجميل والرئيس الشيخ أمين الجميل.

وها هو لبنان يستعد الآن لانتخاب صعب لرئيس جديد يقود البلاد الى عصر جديد، في ظل رئاسة الرئيس نبيه بري صاحب أطول مدة في الرئاسة الثانية، والنصاب الدستور لا يكتمل لانتخاب الرئيس العتيد.

في البلاد الآن جمهورية فراغ، لا أحد يتكهن بموعد ملئها برئيس مؤهل لحكم البلاد، التي تتنازعها حروب جديدة، على الوظائف، بعدما أمعنت سابقاً فيها الحروب على مناصب الفئة الأولى وأضحت الآن الحروب تدور على وظائف الفئات الثانية والثالثة والرابعة.

كان الدكتور جورج سعاده رئيس حزب الكتائب اللبنانية، يقول إن اتفاق الطائف كرّس العُرْف في الدستور المكتوب بدلاً من التقليد غير المكتوب في الدستور السابق. أما الآن فإن اتفاق الطائف مضى عليه أكثر من ربع قرن، دون تنفيذ كامل لبنوده، لأن الوصاية السورية التي أوكل اليها العالم تنفيذه، جزأته، ونفذته على ذوقها وأفرغته من محتواه.

في البلاد الآن تكتل سياسي هو الأكبر يرئسه سعد الحريري بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، يليه تكتل التيار الوطني الحر الذي يرشح العماد ميشال عون لترؤس البلاد، لكن محاولات التوافق بين الجنرال والرئيس سعد الحريري، وصلت الى طريق مسدود.

بيد أنه أدرك الآن، صعوبة اختيار العماد عون، وتعذر عليه الاتيان برئيس جديد من ١٤ آذار، فطلع ب مبادرة الاتيان برئيس جديد من ٨ آذار هو النائب والوزير السابق سليمان فرنجيه.

صحيح أن رئيس تيار المردة هو حليف للرئيس ميشال عون، لكن سعد الحريري استطاع أن يجعل الجنرال يختلف مع النائب فرنجيه، واستطاع أيضاً أن يطرحه مرشحاً جدياً للرئاسة الأولى،. لكنه لم يطرحه حتى الآن مرشحاً رسمياً لجماعة ١٤ آذار.

كان من نتيجة هذا الترشيح للنائب فرنجيه، وقوع خلاف حاد بين الرئيس سعد الحريري والدكتور سمير جعجع المرشح الرسمي لجماعة ١٤ آذار، وكان من نتائجه اللقاء الشهير في بلدة معراب معقل رئيس حزب القوات اللبنانية والاعلان من هناك أن سمير جعجع يرشح خصمه التقليدي العماد عون لرئاسة الجمهورية.

وهكذا انفرط تحالف ١٤ آذار وقام تحالف جديد بين الجنرال والحكيم وظل حزب الله على تأييده لصديقه وحليفه الجنرال وبرز كلام عن تأييد الرئيس نبيه بري للنائب فرنجيه معطوفاً على تأييد حليفه وليد جنبلاط وبعض أو معظم نواب تيار المستقبل لرئيس تيار المردة.

هل الخلاف على وظائف الفئة الثانية في السلطة يمهد لخلاف أشد وأعمق بين القوى المسيحية برئاسة الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي والفئات الاسلامية، أو بينها وبين الشيعة خصوصاً، فتعود البلاد الى نقطة الصفر مجدداً؟

تدور هذه المماحكات، على أبواب ذكرى مرور اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، والذي قد ترافقه عودة الرئيس سعد الحريري الى بيروت، واعلانه رسمياً أنه يرشح النائب سليمان فرنجيه لمنصب رئيس الجمهورية.

ولهذا، فإن جلسة الثامن من شباط الحالي قد تكون الجلسة الخامسة والثلاثين من دون اكتمال النصاب، لاخيتار رئيس جديد للجمهورية.

ويبدو أن منطق التحالف بين أركان ٨ اذار، بمن فيهم السيد حسن نصرالله والعماد عون والنائب فرنجيه قد اندثر، وحل مكانه انحسار هو أقرب الى الفراق منه الى اللقاء والاجتماع. وقد زار وفد من الحزب العماد عون في الرابية يوم السبت الفائت واندثر معه احتمال التقارب بين الرابية وبنشعي.

الجلسة المتوقعة لن تكون حاسمة، لأن المرشحين الاثنين العماد عون والنائب فرنجيه لن يحضراها على الأرجح، وسيقاطعها حزب الله والآخرون لن يؤمنوا النصاب القانوني.

في ذكرى غياب النائب والوزير الراحل نسيب لحود، يتذكر الناس قصته مع الجمهورية، كأنها هي اختارته، لكن العريس خطفه المرض، وخطف معه البرلماني الأكثر عراقة في السياسة، والأمنع سياسياً في المواقف المتصلة بمصير البلد.

كان المهندس نسيب لحود، رجل أعمال كبيراً، لكنه بمجرد أن ترشح أو فكّر في خوض السباق الرئاسي، أوقف أعماله كلها، واشترط على نفسه، أن يقارع السياسيين حجة، ورأياً وكان من ألمع وأبرز وجوه ١٤ آذار، وإصراراً على اعتماد النصاب القانوني للجلسات النيابية نصف عدد اعضاء المجلس زائداً واحداً، وهذا ما جعله يناوئ دعاة احتساب الثلثين، كما كان يدعو اليه الرئيس نبيه بري، وجاراه في ذلك نجوم ١٤ آذار، فخسروا بذلك المعركة قبل أن تبدأ. رحل نسيب لحود وبقيت مبادئه والمذاهب شاهداً على نقاوة فكره السياسي.

ويقول سياسيون بارزون إن مشروع استعادة الوطن اللبناني معافى، لا يكون الا ساعة يتكرس مكاناً للأقحاح.

إن مشروع استعادة الوطن اللبناني المعافى، إما أن يكون في جوهره مشروع ثقافة وحرية، أو لا يكون. فلولا الثقافة، ما كان للبنان أن ينتشر في وعي العالم، وما كان لوجوده أن يترسخ في ضمير الانسان، ولولا ايمان اللبنانيين بالحرية وبقيمها لما استُوطِنَت هذه الجبال، ولا قامت في أرجائها حضارات. ليس في هذا الكلام مبالغة، ولا تضيره حالة الانحدار المتسارع التي تطبع واقعنا الراهن.

تبقى الثقافة صناعة البشر الأنبل والأروع، فهي تجسد ميراث تجارب الأجيال للارتقاء والتطور الحضاري، وهي تضفي صفات الخالق والفاتح على المثقف، عندما يخوض كفاحه الأسطوري لوعي ذاته وتحقيق انسانيته في مواجهة الفراغ والقلق من المجهول.

ففي الثقافة جوهر الأجوبة المعقدة التي يصوغها الانسان، في البحث عن معنى وجوده، وعند سعيه الى التحرر من معايير الزمان والمكان، لممارسة حرية غير رازحة ولا مقيّدة ولا مسدودة. فهي الخيار الأضمن لعقلنة مقاربات البشر للأقدار المهيمنة على مصائرهم، بأبعادها البيولوجية والاجتماعية والروحية والمادية.

اذا كانت الثقافة معياراً ومعبراً للحضارة والرقي، فهي الشهادة للمثقف عندما يسخّر ارادته وفكره وأحلامه لتحقيق تطلعات البشر.

ولبنان لم ينشأ من ثقافة واحدة، ولا من عرق واحد أو لغة واحدة، فهو بقعة صغيرة في هذا المشرق العربي، المتمدد عبر صحاريه اللامتناهية، والذي كان بعضه يوماً أشورياً أو بابلياً أو فارسياً أو مصرياً أو شاعراً آرامي اللسان. وهو تخوم لبحر العواصف واللآلئ والآلهة الاغريقية والرومانية وصدى لحضارة بيزنطيا الحائرة بين الحضارتين، ولحكايات الثورة أو الثورتين في أوروبا التي علّمها قدموس اسمها والأبجدية والتجريد حين أبحر اليها بحثاً عن شقيقته الأميرة الفينيقية، بنت الملك إشنّار، التي حملها الإله الاغريقي وطار بها الى ما وراء البحار في غرب الدنيا.

اذا جاز الكلام على لبنان، مجتمعا وملتقى للروافد المندفعة من البحر والصحراء معاً، فيحسن الكلام عليه مختبراً روحياً وحضارياً لالتقاء الشرق والغرب، في هذه الرقعة الفريدة، منذ غابر الأزمنة، إذ لم يكن هذا البلد الصغير، عبر العصور، ممراً عسكرياً للفاتحين، بقدر ما كان معبراً انسانيا تفاعلت على ساحله المشرّع على العالم القديم، وفي جباله العصيّة على الغزاة، مختلف التيارات الروحية واللغوية التي كوّنت حضارة البشر.

اذا عدنا الى علّة وجود لبنان، نلاحظ أنه منذ البدايات، ومنذ أستوطنه البحارة الفينيقيون ونشروا فيه حضارة السلام والمعرفة والمبادلات، وثقافة الفن والذوق والجمال، كان مساحة ثقافية أكثر منها سياسية أو اقتصادية، بل وجدنا أن جوهر وجوده يكمن في هذا التمازج والتفاعل والتراكم لطبقات روحية ولغوية وفكرية شتى، كانت دائما مختبرا حضاريا ولا تزال.

من الصعب ألاّ يسلّم الباحث بفرادة التكوين الثقافي للبنان. ليس في دنيا العرب فحسب، ولكن على امتداد العالم، إذ لم يوجد بلد آخر، في أي زمان أو مكان، تعرّض لهذا الكمّ الهائل من الأحداث والمتغيرات، وتمكّن من البقاء جسراً بين الأزمنة المترامية، ومركبة جاهزة للانطلاق بميراث ثقافات البشر.

ولدت الفرادة الثقافية اللبنانية، كما سبق القول، من رحم خصوصيات الجغرافيا والبشر والأزمنة معاً، وتكوّنت عناصرها من قيم الحرية ومن التنوّع الذي تجسّد منذ البدايات في التكامل والتآلف والتلاقح، ومن البحث عن الآخر للتأثير فيه أو، التأثر به. ان هذا الطموح العابر لحدود المنطقة، والمشارك في ثقافة الانسانية لم يكن ممكناً، لو لم تواكبه ارادة التحرر من قيود الواقع واعادة صوغه، أعني بذلك الحداثة بالفكر والتعبير والتجديد في الصنعة وتجاوز قيود المحرّمات والمسلمات.

وتفاعلت النخب اللبنانية، بحماسة وبشكل مذهل مع الفكر الوافد من الغرب بعد ثورته الأولى. لم تكن العاميّات التي عرفها لبنان في القرن التاسع عشر سوى التعبير عن ذلك التفاعل، عندما رفعت باكراً شعار الجمهورية وفصل الدين عن الدولة، فوجدنا في كتابات فرح أنطون وسواه من الرواد الأوائل في القرن التاسع عشر، كما في ما بعد لدى جبران خليل جبران وأمين الريحاني ومارون عبود وقسطنطين زريق والكثير سواهم، ما يمكن اعتباره التأسيس للفكر النقدي المعاصر على امتداد المنطقة. فكان لهذا البلد الصغير امتياز على العالم العربي بأسره في تصدّره الفكر النقدي النهضوي، والدعوة الى التحرر من هيمنة الشأن الديني والمؤسسة الدينية على الحيّز العام. فيه تأسست وانطلقت المناداة بعروبة سمحة ومتحررة من الانتماءات الفئوية، ومنه انطلق الفكر المعاصر، والدعوة الى الديمقراطية.

لقد تجاوزت النخب اللبنانية في تطلعاتها لبنان كوطن، فارتادت العالم، لأوسع من مصر الى أوروبا، ومنها الى الاميركيتين، وعملت على انتشار دوره المحدود، وارادته أكبر من ان تمتلكه طائفة أو دين أو عرق، وراهنت على اختصار التاريخ، وعلى قابلية الوطن، للانتقال الى اعتناق الحداثة والديمقراطية والعدالة، وطمحت الى أن تكون كلفة التحوّل الى التطور في مساراتها المتعثرة والبطيئة التي خبرها الغرب.

لعبت النخب اللبنانية دوراً طليعياً في الثورة الفكرية والأدبية والفنية التي انطلقت من بيروت في ثلاثينيات القرن الماضي، والتي تبلورت من خلال المبادرات الواعية والهادفة لتجديد اللغة وآدابها وتحديثها في الشكل وفي المضمون، تتويجاً للانجاز التاريخي لمؤسسي النهضة في اعادة العرب الى لغتهم وإحياء أصولها وفقهها بعد حقبة التتريك الظلامية.

أتاح توافر وسائل المواصلات الآمنة، في بدايات القرن العشرين، لهذه النخب، التعرّف الى الصحاري العربية والتآلف الحسّي مع خصوصياتها، ما مكّنها من مقاربة مكنونات الفكر واللغة والمشهد اللامتناهي للصحراء، المتخيّل والمنظور. ساعد انفتاح الجغرافيا العربية على مداها الأوسع أمام هذه النخب على النفاذ الى الروح العربية ووعي جوهر مكنوناتها، ما مكّنها من الاجادة في سعيها لتحرير اللغة العربية من شظف حياة البادية من دون المجازفة بخصوصياتها ونقائها، وقد أسهم ذلك في اغناء لغتنا وانفتاحها وانتشارها واعطائها البعد العالمي الذي تستحقه.

لا نجانب الحقيقة عند الكلام على لبننة اللغة العربية ودور النخب الثقافية اللبنانية في انفتاح لغتهم الأم على لغات العالم، وخصوصا على اللغة الفرنسية. هذه الفرادة في مقاربة التفاعل بين اللغات لم توظف أبداً كهدف بحد ذاته، إذ اعتبر هذا التفاعل حلقة ضرورية لنجاح المشروع الثقافي النهضوي العربي واعطائه طابعاً عالمياً. فكانت بيروت خلال السنوات العشر التي سبقت الحرب الأهلية مختبراً عالمياً فريداً من نوعه للتآلف والتلاقح بين اللغة العربية وثقافتها وقيم الحرية والحداثة في الفكر العالمي، وورشة عالمية لترجمة ونشر الفكر والحضارة العالميين في المنطقة. –