غطاء كبير لمعركة طرابلس.. وفاتحة مرحلة جديدة
تُشير معركة طرابلس بين الجيش اللبناني وعناصر مسلحة، تنتمي إلى جبهتي «النصرة» وداعش، تغلغلت في أحياء المدينة، أو تمكّنت من تكوين بنى تحتية لها، أو فرّت من بعض المناطق، غداة مطاردة أو وشاية، أو ملاحقة، أو تحسباً لأمر ما آخر، إلى أن لبنان تحوّل إلى أرض «جهاد»، ولم يعد الأمر يقتصر على اعتباره أرض «نصرة»،كما كانت الحال، في السنوات الأخيرة من عهد الوصاية السورية على لبنان.
ومن الخطأ اعتبار ما حدث في عرسال، ومرشح للحدوث أيضاً، وما حدث في بعض مناطق الضنية وعكار، وقبل ذلك في عبرا، بأنه يأتي فقط، في سياق، مواجهة إيران أو حزبها في لبنان (وفقاً لأدبيات هؤلاء)، بل هو يندرج في سياق، إعادة إدراج البلد في سياق «حروب المحاور» الممتدة على طول الشرق العربي وعرضه، من باب المندب على البحر الأحمر إلى ضفتي الفرات في الشام أو البحر الأبيض المتوسط الممتد من شواطئ طرطوس إلى شواطئ صور.
وفي «حروب المحاور» هذه، كانت النقاشات تتحدث عن خصوصية ما للبنان، فهو بلد تعدّدي: إتنياً وطائفياً، وهو بلد يغلب على دوره الاقتصادي تاريخياً، دور الكومبرادور، حيث تمكنت «المركنتيلية اللبنانية» إذا صح القول، من إضفاء هوية على البلد، باعتباره نقطة توسط بين الشرق والغرب، وملتقى الحضارات، ونقطة تقاطع المصالح الكبرى إلى آخر ما تحفل به كتب الجغرافيا والتاريخ أو أدبيات السياسة، على لسان الكتّاب والسياسيين، وحتى الشعراء، أو الحالمين ببلد يطفو فوق الصراعات والخلافات، ويخرج من أن يكون ساحة لحروب الآخرين على أرضه.. ومن ضمن هذه الخصوصية، أنهى حزب الله مقولة الثورة الإسلامية في لبنان في «الرسالة المفتوحة» إلى التسليم بما ينسجم مع عقلية الشيعة وباقي المكوّنات الطائفية مما تضمنه اتفاق الطائف، ولا نهائية الوطن اللبناني لجميع بنيه، ومع ذلك، بقي الحزب، مرتبطاً بمشروع إقليمي، يعبّر عن صعوده، فانخرط في كل لعبة المحاور ليس في سوريا وحسب، بل في عموم المنطقة من بلاد الرافدين إلى أرض اليمن السعيد، ومصر، وصولاً إلى غزة..
ومن ضمن هذه الخصوصية، ذهب الاعتدال السنّي متمثلاً بتيار المستقبل، إلى الابتعاد عن دعم التطرّف، والانخراط في مشروع بناء دولة على أساس وثيقة الطائف، التي أولت الإسلام السياسي المعتدل، دوراً قيادياً في إعادة التوازن، وبناء مؤسسات قادرة على إدارة الخلافات والصراعات، تحت تسمية «الصيغة اللبنانية الفريدة، والديمقراطية اللبنانية، والتسويات على الطريقة اللبنانية..
على أن الثابت أن «الإسلام الجهادي» انخرط في الساحة اللبنانية، منذ سنوات تتعدى النصف قرن، سواء عبر جماعة «الإخوان المسلمين» أو «حزب التحرير»، بما في ذلك الجماعات المتطرّفة، ولا حاجة لإعطاء أمثلة، فمجرّد عودة إلى تنشيط الذاكرة، تساعد في اقتناص الأدلة..
ولم تكن ساحة لبنان بمنأى عن الخلافات أو التوترات الحاصلة بين الغرب الأميركي والأوروبي وإيران بعد ثورة الإمام الخميني، كما لم تكن ساحة لبنان بمنأى عن تداعيات «حروب الربيع العربي»، التي سبقها اغتيال الرئيس رفيق الحريري في ذروة صراعات على السيطرة على مواقع القرار السياسي والاقتصادي والاستراتيجي في الشرق العربي..
ولا حاجة بعد ذلك، لتبيان الطابع الطائفي لتطوّر الاحداث منذ نهايات العام المنصرم، إلى ايامنا هذه، حيث بدا ان تنظيمات سنية مسلّحة، اتخذت القرار بالصدام المسلح مع حزب الله، ايا كانت النتائج.
وفي حالة لبنان الفريدة، ربما يكون لجغرافيا لعنة على طبيعة الصراعات.. هكذا وجدت عرسال نفسها في محيط جغرافي غير ملائم لحرب طويلة مع الجيش اللبناني، وهكذا وجدت عبرا نفسها مطوقة من كل الاتجاهات..
ومع ذلك، دفعت القوى الأشد تطرفاً في الشارع السني الامور إلى اشتباكات مسلحة بفعل انتحاري يقوم على مبدأ: عليّ وعلى أعدائي يا ربّ..
مناسبة هذه اللوحة، هو اندلاع الاشتباكات العنيفة مساء الجمعة الماضي بين وحدات الجيش اللبناني ومجموعات مسلحة صغيرة في الاسواق الداخلية لعاصمة لبنان الثانية طرابلس..
والسؤال لماذا اندلعت حرب طرابلس، او معركة الحسم في طرابلس؟
من السذاجة بمكان الاعتقاد ان عملية عاصون، هي وحدها سبب معركة طرابلس، وذلك للاسباب الآتية:
1- منذ فترة، ليست ببعيدة كانت أحياء التبانة، والاسواق التجارية، ومناطق اخرى في المدينة، تشهد نوبات اثر نوبات من الظهور المسلح، واطلاق النار على الوحدات العسكرية المنتشرة في المدينة، في اطار الخطة الامنية التي انهت فصولاً من الحرب بين جبل محسن وباب التبانة.
2- كانت الاعتداءات شبه الليلية على الجيش اللبناني، على ارتباط وثيق بما يجري في عرسال وجرود عرسال، وما يتردّد عن استعدادات لمعارك حاسمة في جرود القلمون.
3- في المعطيات التي تملكها جهات امنية وحزبية ان «المجموعات المسلحة» المرتبطة بالتنظيمات السورية المتطرفة التي تقاتل في ريف دمشق، وجبال القلمون، تستعد لاقامة «امارة في الشمال» او في طرابلس اذا عجزت عن توسيع الدائرة الجغرافية التي ستشملها الامارة.
4- في مناسبات عدة، ايام الجمعة وغيرها، كانت تطفو على سطح التجمعات، جماعات تظهر في سلاحها، تطلق النار، وتعلن ان قوة مسلحة قادرة على بسط ارادتها في منطقة ما، تيمناً بما تفعل قوى مسلحة اخرى في مناطقها خارج الشمال.
5- في معركة طرابلس، بدت الجماعات السلفية والمسلحة بلا حاضنة او ظهر شعبي كما يقال.
وبان لمن يتابع ان ثمة قرارات كبيرة بانهاء النتؤات الامنية في المدينة، فالمسألة اصبحت ابعد من الاتهامات والحملات الاعلامية، فإن مستقبل عاصمة الشمال، وبالتالي مستقبل قوى الاعتدال الاسلامي، بصرف النظر عن مواقفه وخياراته وانتماءاته، التي وان اختلفت فإنها بالتأكيد تلتقي عند دعم الدولة والشرعية ومؤسساتها..
ثمة قرار كبير، وفر له الرئيس سعد الحريري الغطاء السياسي، ويقضي بأن يمسك الجيش اللبناني بأمن المدينة، وإلا كيف يمكن لمعركة من هذا النوع ان تحصل من دون غطاء؟
وهل عرسال أهم من طرابلس، حتى غابت عنها المواجهة التي كان يمكن لها لو حصلت ان تمنع اخراج العسكريين الاسرى من البلدة إلى مغاورها وجرودها؟
مع معركة طرابلس، ثمة مرحلة جديدة من التحولات في السياسة والامن والاستقرار، وحتى في اطلاق العدّ العكسي لاعادة النازحين إلى بلادهم سوريا..؟