Site icon IMLebanon

لبنان: من مهب الريح إلى غياهب النسيان

على رغم التحولات المفصلية التي تعصف بالمنطقة، فمن المرات القليلة التي لا يكون فيها لبنان ممراً أو مقراً لنزاعات الآخرين، وهو ليس مسرحاً أصيلا أو رديفاً لأحداث المنطقة، مع العلم ان عناصر النزاع موجودة فيه. لبنان محصّن لان ما من طرف داخلي نافذ يسعى الى إحداث فتنة، ولأن لا مصلحة لأحد في حروب قد تكون مدّمرة للذات قبل أن تؤذي الغير. كما أن للخارج أولويات تتجاوز لبنان، مع التخمة في عدد ساحات القتال في المحيط العربي.

الربيع العربي واتفاق فيينا حدثان محوريان مرّا مرور الكرام في لبنان، ما حَرَم من كان معتاداً من السياسيين اللبنانيين من قطف ثمار مواسم لبنان الساحة. حروب سوريا والعراق واليمن وليبيا وجنون التطرف الديني وكارثة اللاجئين أحداث تُشغل العالم. فلا موقع واضحاً أو ثابتاً للبنان في اهتمامات الدول الكبرى ولا اكتراث لمشاكله وخلافاته الموروثة والمستجدة. فما على اللبنانيين الآن سوى أن «يقلّعوا» شوك أزماتهم بأيديهم. فلا جنيف في الأفق ولا لوزان، ولا طبعا طائف جديداً أو دوحة منقّحة. البديل الممكن حوار وطني «بلدي» في جولة ثالثة مكرّرة لضخ بعض الأوكسيجين في جسد مريض دخل مرحلة «الكوما». بين تداعيات الربيع العربي واتفاق فيينا، فقد لبنان وظيفته المعتادة كساحة لحروب المنطقة المتكاملة مع حروبه الذاتية، وبات مسألة منسية في أسوأ الأحوال وغير مجدية في أحسنها. نحمد الله على أن لبنان لم يعد يشغل بال الدول الفاعلة، وإلا كان قد تحوّل ساحة قتال شبيهة بساحات دول الجوار.

عندما كانت الدول الكبرى منشغلة بلبنان، غالبا ما كان ذلك بسبب ما يحتويه أو لأسباب مرتبطة بالوضع الإقليمي أكثر مما هي لأسباب تخص لبنان بحدّ ذاته. قرار إرسال المارينز الى لبنان في 1958 اتخذته واشنطن بعد إطاحة النظام الملكي الهاشمي في العراق، الحليف الإقليمي الأبرز للمعسكر الغربي وقتذاك، وبعد قيام الوحدة بين مصر وسوريا. في 1976 جاء الانخراط الرسمي للجيش السوري في الحرب لاحتواء التمدد العسكري الفلسطيني، بديلا من تدخل دولي لم يكن متاحا. وفي 1982 جاءت القوات الدولية الى بيروت مرتين بسبب الأمر الواقع الذي فرضه الاجتياح الاسرائيلي وانسحبت في المرة الثانية بعد تعرضها لضربات موجعة، وأعاد الجيش الاسرائيلي انتشاره داخل «الحزام الأمني» في الجنوب المحتل.

الحسم في المسائل الخلافية في لبنان اليوم يخضع لاعتبارات الداخل بقدر ما يتأثر بالخارج. لكن ثمة من لا يزال أسير زمن ولّى، عندما كان القرار يأتي معلّباً من الخارج فيتم تنفيذه. والبعض لا يزال يراهن على كلمة سر علّها تأتي، أو على همس سفير أو إشارة زائر أجنبي. ويزداد المشهد إثارة خصوصا في الشأن الرئاسي، فتُزجّ عواصم دول كبرى وصغرى وأسماء قادتها في القرار وكأن لبنان في صدارة اهتمامات العالم. وقد يتوّهم البعض أن الرئيس الأميركي لن يرتاح له بال إلا بعد انتخاب الرئيس العتيد، والرئيس الفرنسي قلق على لبنان الى حدّ الهوس، والمستشارة الألمانية لا تغمض لها عين إلا بعد أن تطّلع على مجريات الحوار الوطني، وأن أزمات سوريا وأوكرانيا لن تُشغل الرئيس الروسي عن متابعة الحراك الشعبي في لبنان.

فلولا أزمة اللاجئين التي هزت أوروبا، والإرهاب المعولم، لكان لبنان غاب كلياً عن اهتمامات العالم. أما السعودية وإيران، الدولتان الأكثر متابعة مبدئياً للشأن اللبناني، فلكل منهما أولويات وهموم تفوق أهمية ومردوداً سياسة المحاور اللبنانية. الرياض منشغلة باليمن وسوريا والعراق وطبعا بإيران النووية، وطهران منشغلة بسوريا والعراق ودول الخليج وخصوصا بتطبيع علاقاتها مع العالم. لن تتخلى طهران والرياض عن الملف اللبناني، إلا أن اهتماماتهما منصبّة في أماكن اخرى وعلى قضايا أكثر إلحاحاً وأهمية من الوضع اللبناني «المستقر» في توازناته الهشة وتفاصيله المملّة. فما على اللبنانيين سوى أن يتأقلموا مع واقع انتقال لبنان من مهب الريح الى غياهب النسيان، مصدر الأمان المتاح في هذه المرحلة.