في حين تركز الانتباه العالمي على الجهود الموحدة لائتلاف القوى التي تهاجم مواقع تنظيم «داعش» في العراق وسوريا، ثمة أمور تتكشف في لبنان، الذي يعتبر جبهة ثالثة في الحرب ضد ذلك التنظيم العنيف المتطرف. ولكن هذه الجبهة لم تحظ سوى باهتمام ضئيل. ونظراً لأن الدولة اللبنانية أضحت منهكة بشكل كبير من تداعيات الحرب الأهلية السورية، الأمر الذي فاقمته حساسية التوازن الطائفي الهش، فقد أصبح تهديد «داعش» أيضاً يمثل تحدياً وجودياً لا ينبغي إغفاله.
يعتبر لبنان أصغر دول جوار سوريا، وهو يستضيف في الوقت الراهن نحو 40 في المئة من اللاجئين السوريين. ويعني وجود 1,2 مليون نازح سوري بالنسبة للسكان اللبنانيين الذين يقل تعدادهم عن 4 ملايين نسمة، أن بين كل أربعة لبنانيين يوجد الآن سوري. وبالطبع يسبب ذلك ضغوطاً شديدة على موارد لبنان ونظامه الاجتماعي. وبينما ينتشر اللاجئون في أنحاء البلاد بأكثر من 1600 موقع، أُغرقت بعض المدن اللبنانية تماماً بالسوريين مع ما لذلك من تداعيات مثل النقص الحاد في المساكن والخدمات الطبية والمياه والكهرباء. إضافة إلى ازدحام الفصول الدراسية. وبما أن اللاجئين يرغبون في العمل مقابل أجر أقل، يجد كثير من اللبنانيين أنفسهم خارج سوق العمل.
وقد كان المجتمع الدولي كريماً في تقديم الدعم للاجئين، وإن كان أقل بكثير من الاحتياجات القائمة. ولكن المجتمعات المضيفة لم تحصل على أي دعم ملائم كي تقدمه للمواطنين اللبنانيين الذين تأثروا بصورة سلبية من زيادة أعداد اللاجئين، وقد سبب ذلك توتراً وضغوطاً هائلة في أرجاء البلاد.
وفي حزيران العام 2012، اتفقت الجماعات السياسية اللبنانية كافة على سياسة «النأي بالنفس» عن الصراع لدى الجيران، متعهدة بعدم الانخراط في الحرب السورية. وبرغم أن بعض الأفراد اللبنانيين عبروا الحدود للقتال مع حكومة الأسد أو ضدها، إلا أن أول خرق رسمي لسياسة «النأي بالنفس» كان بدخول «حزب الله» في الحرب السورية في العام 2013. وبينما تنوعت مبررات «حزب الله» لهذا التحرك من دعوى حماية الأماكن الشيعية المقدسة لكي لا يقتحمها المتطرفون، إلى تأييد حليفهم في دمشق، إلا أن النتيجة كانت إغضاب السكان السنة في لبنان، ومن ثم إثارة التصدعات الطائفية.
وعلى مدى العام الماضي، كان لبنان في حالة من الغليان على نار هادئة، فقد كانت هناك عمليات تفجير جماعية في كل من الأحياء الشيعية والسنية، ولم يمض يوم من دون بلاغات عن هجمات طائفية محدودة النطاق، ولكن قاتلة في كثير من الأحيان.
وأشد الأوضاع خطراً حتى الآن يكمن في شمال شرق لبنان، وتحديداً في مدينة عرسال الحدودية. فنتيجة للحرب السورية، ارتفع تعداد سكان المدينة من 35 ألفاً إلى 100 ألف أو يزيدون. ولذا استغلت قوة مشتركة من «جبهة النصرة» (التابعة لتنظيم «القاعدة») وتنظيم «داعش» فرصة الاستياء العام، وسيطرت على مدينة عرسال في أوائل شهر آب الماضي. وبعد أسبوع، استعادت القوات المسلحة اللبنانية السيطرة عليها مرة أخرى، وأخرجت التنظيمين المسلحين. بيد أن الخسائر كانت كبيرة، إذ قتل 19 جندياً لبنانيا في المعركة، وخُطف 38 آخرون. ومنذ ذلك الحين، بدأ مسلسل مخيف ومأساوي وخطير، إذ يهدد المتطرفون بقطع رؤوس الأسرى ما لم تنفذ مطالبهم.
ومن الضروري أن نشير إلى أن «القوات المسلحة اللبنانية» تحظى باحترام كبير بين طوائف المجتمع اللبناني؛ لا سيما أنها المؤسسة الوحيدة في لبنان التي توجد فيها نسب شبه متساوية من السنة والشيعة، وينضم إليهم عدد كبير من المسيحيين. وقد أظهر استطلاع حديث للرأي أنه على الرغم من أن الشعب منح نسبة تأييد منخفضة تقل عن 10 في المئة لكل من البرلمان والحكومة، إلا أن 70 في المئة أعربوا عن تأييدهم لجيشهم.
وقد استغل المتطرفون بقسوة الأسرى في دعوة أسَرهم للضغط على «القوات المسلحة اللبنانية» من أجل الانسحاب من مدينة «عرسال»، ثم بدأت عمليات إعدام الجنود واحداً تلو الآخر، من أجل إظهار القسوة والعناد. وقد رفض المسؤولون اللبنانيون هذا العرض الوحشي واشتكوا من أن بعض عناصر الإعلام في لبنان أسهموا في الجهود المتطرفة عن طريق المبالغة في التماسات واستجداءات آباء وأسر الجنود المخطوفين.
وحتى الآن، تم إعدام ثلاثة جنود من قوات الأمن اللبنانية، ولكن الجيش والحكومة مصممان على مقاومة الضغط ورفض تسليم عرسال لسيطرة التنظيمين المسلحين. ومثلما أوضح مسؤول لبناني مؤخراً: «إن الاختيار الذي يمنحوننا إياه هو مقايضة 38 أسيراً مقابل مدينة عرسال بأسرها».
وقد وقع لبنان على أن يكون شريكاً في التحالف الأميركي من أجل محاربة تنظيم «داعش»، ولكنه لن يخوض حرباً في سوريا أو العراق، إذ إن القوات المسلحة اللبنانية مشغولة بجبهتها الخاصة في تلك الحرب. وتحتاج جهودها إلى اعتراف وتأييد دوليين، وتتطلب الأمور مزيداً من المساعدة لتقديمها ليس فقط لجموع اللاجئين الضخمة ولكن أيضاً للمجتمعات المضيفة داخل لبنان.
وسيكون من المأساوي أثناء محاربة وجود تنظيم «داعش» في العراق وسوريا أن يتجاهل العالم، ومن ثم يسمح لـ«داعش» بأن يحصل على موطئ قدم في تلك الدولة، أو أن تتمكن أساليب «داعش» أو «جبهة النصرة» من إثارة التوترات داخل لبنان، ومن ثم اندلاع حرب أهلية طائفية. والحل من أجل تفادي أي من النتيجتين هو تعزيز القوات المسلحة اللبنانية لكي تتمكن من السيطرة على حدود الدولة وتظهر للشعب اللبناني أن العالم يعي مأساته.