ثورةُ شعبٍ قادمة حتماً ولا محالة، في لبنان، هي ثورةٌ استثنائية سيُعلنها حُكماً مَن يعاني الأمرَّين يوميّاً. وبالإذن من العملاق وديع الصافي فإنّ لبناننا لم يعُد «قطعة سما»، بل تحوّلَ للناظر من السما… مرآباً للسيارات.
الكارثة تشبه «التزاحم» على الموت الأحمر البطيء الذي يتلذّذ يوميّاً في هذه «الشوبات» بتعذيب المواطنين ذهاباً وإياباً من «ما قبلَ جونية إلى ما بعد بعد بيروت»، وعلى حدّ قول السيّدة زينة التي اصطحبَت أولادها الأربعة إلى أحد الشواطئ: «مصيبة إذا بقينا بالبيت ومصيبة أكبر إذا قرّرنا نعمل كزدورة.»
حاصَر السيّدة زينة وابلٌ من السيّارات الملتهبة على الطريق العام بين جونية وبيروت قبَيل الغروب، وصادفَ أيضاً حصارُنا قربها لمدة تجاوزَت الساعتين، وكلّما تقدّمت سيارة إحدَينا خطوةً إلى الأمام كلّ دقيقتين، نَخالها دهراً، فكان لا بدّ مِن تعليقٍ لزينة على «الطريقة اللبنانية»: «أقسِم بالله إنّني عايشتُ زمن الحرب وويلات الزحمة على الحواجز إبّان جولات القتال، وتمكّنا من مواجهتها وتخَطّيها، لكنّني لم أشهد طوال حياتي زحمةً مماثلة للزحمة التي تعيشها بيروت والمناطق المجاورة في هذه الفترة، وأنا في حيرةٍ مِن أمري إذا أبقيتُ أولادي في المنزل وسط انقطاع المياه والكهرباء وأعطال المكيّف الذي بالكاد يَعمل على الـ 5 أمبير…
زحمة موسمية !
منذ أوائل الشهر الحالي واللبنانيّون يَغرقون وسط بحرٍ من السيارات العالقة على الطرقات ذهاباً وإياباً، أمّا الدولة فغائبة أيضاً، لا بل عالقة معهم في أفقِ البحر الواسع، والغريب أنّ الجميع يتذمّر ويَبحث عن الحلول، وتكثر الاجتهادات، إلّا أنّ السؤال الذي يقضّ مضاجعَ المواطنين: ما هو سرّ هذه الزحمة القديمة المتجدّدة بقسوةٍ، والتي تحوّلت إلى طوقٍ يُطبق على أعناق اللبنانيين؟
يقول المراقبون والمحلّلون إنّ لأزمةِ السير الخانقة التي بدأت تَظهر هذه الفترة أسباباً كثيرةً، أهمُّها:
-1 غياب وسائل النقل العامة الحديثة التي قد نبدأ بسردِ قصّتها ولكنّنا لن ننتهي.
-2 النزوح: لا شكّ في أنّ أزمة النزوح ليست جديدة إنّما تداعياتها لم تظهر خلال السنوات الأولى كما اليوم. فإذا اعتبرنا أنّ 5 في المئة من النازحين قدِموا إلى لبنان مع سياراتهم، فالأمر بالتأكيد سيزيد مِن نسبة الزحمة على الطرقات.
والكلّ يشاهد بأمّ العين الأرقام الكثيفة للسيارات القادمة من دمشق، وحلب، وحماه وغيرها… ووفقَ المصادر الأمنية، فإنّ عدد السيارات السوريّة والتي سُجّل دخولها رسمياً عبر الحدود بلغَت الـ 100 ألف سيارة سنوياً. أمّا الباقون وإن لم يَنزحوا مع سيّاراتهم، فمِن الطبيعي أن يتنقّل بعضهم بواسطة وسائل النقل المعتمَدة في لبنان لتزيد الزحمة تلقائياً.
-3 إرتفاع عدد معارض السيارات التي تتزايد موسمياً وسنوياً. في المقابل يَشهد اللبنانيون تزايداً للسيارات القديمة التي لا تتلف أو تُصَدَّر إلى الخارج، كما في البلدان المتقدّمة. لا بل تسير على الطرُق «غَندرة» وبكلّ ثقة.
-4 نسبة السيّاح التي تبلغ ذروتها في شهرَي تمّوز وآب، والأغلبية منهم تلجأ إلى معارض السيارات للاستئجار.
-5 قدوم المئات من الشباب المقيمين في المناطق الجبَلية أو الجنوبية البعيدة للعمل، لا سيّما في فترة الصيف، نظراً لحاجتهم إلى ادّخار الأموال استعداداً لمواسم الدراسة، فيما يلجَأ ايضاً الآلاف منهم إلى الانتقال للسَكن في العاصمة بعد التخرّج، ممّا يضطرّهم إلى شراء السيارات بسبب غياب وسائل النقل الحديثة.
وفي هذا السياق، يقول أحد الشباب لـ«الجمهورية»، والذي أتّى من الجنوب للعمل في العاصمة برفقة 29 شاباً من أهل منطقته الجنوبية، إنّه «كان يتمنّى لو يعود يومياً إلى بلدته بواسطة وسائل نقل حديثة ومنظّمة مِثل باقي الدول المتحضّرة، لكان بذلك وفّرَ على نفسه وعلى شباب البلدة الابتلاءَ بشراء سيّارة وتكبَّد مصاريفَها وصيانتها إضافةً إلى الاختناق بزحمة العاصمة والتلوّث القاتل.
-6 هجمةٌ لا مثيلَ لها للشاحنات التي «تتغَندر» على يسار أو يمين الأوتوستراد، وتمشي في عرض الطريق غيرَ آبهةٍ بتأفّف المواطنين.
-7 كثرة المطبّات غير المدروسة، إنْ لجهة الحجم أو حتى اختيار المكان الملائم لإقامتها، إضافةً إلى ورَش العمل التي تبدأ وتتوقّف بسبب سوء التخطيط، ما يؤدّي حكماً إلى زحمة سير تدريجية. والمثال على ذلك، الحفرة التي أحدثها أحد المتعهّدين منذ قرابة الشهر مقابل كازينو لبنان وأدّت إلى هلاك المواطنين من الزحمة وكادت أن تفجّر أزمة وطنية وشعبية
-8 عدم التشدّد في تطبيق قانون سيرٍ صارم، حيث يَسري القانون الحالي على المواطنين العاديين ولا يَسري على النافذين المستقوين بالسياسيين.
-9 غياب ثقافة وآداب سلوك القيادة الحسَنة التي يلجأ إليها البعض، فإذا التقى بصديق على طريقه يتوقّفان في عرض الطريق للسلام والكلام من دون الالتفات إلى صف الزحمة التي خلّفها لقاؤهما !
-10 الطقس الحارّ وما يخَلّفه من قرارات للعائلات اللبنانية التي يَستهويها الكيفُ والهروب من المنزل بسبب الانقطاع الدائم للكهرباء، فيقصدون البحر أو الجبال للاستمتاع بمناخ صحّي بعِيد عن الحرّ والتلوّث.
-11 طباع اللبنانين الذين تستهويهم النزهات الطويلة في سيّاراتهم، ولا يكتفون باقتناء سيارة واحدة أو اثنتين للعائلة الواحدة، مفضّلين عدمَ القيام بأيّ مجهود إضافي للتوصيلة المجانية لأفراد العائلة هرَباً مِن المسؤولية أو خوفاً من الزحمة.
-12 غياب الحكومة الإلكترونية أو المكننة الحديثة التي تساعد المواطن على تسديد فواتيره أو تخليص المعاملات الروتينية من داخل المنزل عوضَ الذهاب إلى مراكز الدولة المعتمدة للقيام بذلك، وأغلبيتُها تتمركز وسط العاصمة ويتطلّب الوصول إليها مسافات ومشقّات بسبب الزحمة وقلّة المواقف.
إذاً، ما هي الرؤية العملية لمعالجة تداعيات الأزمة القديمة – الجديدة المستفحلة على طرق لبنان بكامله من أقصاه إلى أقصاه؟
كثيرون مِن المحللين والمراقبين استوقفَتهم أزمة زحمة السير خلال هذا الأسبوع، وكثرَت التقارير عن ضرورة البدء في مشروع توسيع أوتوستراد حونية الذي وقّعت الوزارة مراسيمه أخيراً، إلّا أنّ الجميع يَعلم بأنّه لن ينتهي قبل الـ 2020، هذا إذا بدأ فعلاً !، فهل مِن سبيل إلى معالجة فعّالة تتطلب وقتاً وكلفة أقلّ؟
الحلّ الوحيد
يُجمع المعنيون في الدولة على أنّ الزحمة إلى تزايد، وستؤدّي إلى ثورة مقبلة حتمية، ولا حلّ لها إلّا باستحداث وسائل نقل عامة للّبنانيين في أسرع وقت وفي مختلف المناطق.
وأشارت مصادر مطّلعة لـ«الجمهورية» إلى أنّ غياب قطاع النقل العام يُساهم في ازدياد سريع لأعداد المركبات الآليّة، وستتحوّل طرُق لبنان تدريجياً إلى مرائب كبيرة، ومهما جرى تطويرُها أو توسعتُها او استحداثُها، ستملأها مجدّداً السيارات الحديثة التي ستأتي لتعبئة الأماكن الخالية، وتزايُد معارض السيارات على طول الأوتوسترادات في لبنان جاهزٌ وخيرُ دليل على ما نقول.
أمّا أهمّية الخطة الشاملة فتتمثّل «في البدء بإقامة نقلٍ عام محترَم ومشترَك لا يلزمه وقتٌ أو أموال طائلة، بل تلزمه إرادة، لأنّ هذا الحلّ موجود من عشر سنوات عبر مناقصة تمّت، وتمثّلت بعمل 250 باصاً في منطقة جبل لبنان وبيروت تحديداً، إلّا أنّ المناقصة فشلت بسبب بعض الأمور التقنية، حسب تبرير الحكومة وقتَها، علماً أنّ نقاط الـ Bus stop لهذه الباصات محدّدة في جميع أنحاء جبل لبنان وفي بيروت الكبرى، إنّما لم يُعرف حتى الساعة سبب توقّف المناقصة في مجلس الوزراء، وفشلت بسبب قطبة مخفية.
وتضيف المصادر «إنّ الخطة هذه، لو بدأت، فإنّها ستَجعل المواطن يثق تلقائياً بدولته، ومِن بعدها يجرؤ على التخلّي عن استعمال سيارته أو حتى اقتنائها».
من جهتها، أشارت المصادر الأمنية إلى «عمل أقسام مفارز السير التي تحوّلَت مهمّتُها الشاقّة فقط إلى تسهيل حركة المرور بدلاً مِن تجنيدها للسهر على تطبيق قانون السير بغية الحفاظ على سلامة المواطنين.
الزحمة أخطر من النفايات ؟
وتقول مصادر مطّلعة لـ«الجمهورية إنّ الفضيحة والجريمة الأخطر تُرتكب يومياً بحقّ الشعب اللبناني على الطرُق، وهي أخطر من فضيحة النفايات»، مشيرةً إلى أنّ وسائل النقل المشترك تغيّر سلوكَ الفرد وطبعَه، وتنعكس حبّاً وسلاماً في تصرّفاته وتعاطيه مع المجتمع ومشاركته مشاكلَه
وهواجسه وهمومه من خلال حديث ودّي مفترَض بين راكبَين، عوض أن يتراشقا الاتّهامات وربّما طلقات ناريّة بسبب أفضلية المرور.
بطرس يستقيل بسبب الزحمة
من المهم الإشارة إلى أنّ الزحمة إلى تزايُد في السنوات المقبلة، لأنّه وبدل التصدير، يَستورد لبنان آلاف السيارات من الخارج، مع إبقائه على القديمة التي تتسكّع على طرقٍ تشبهها.
فمشكلة الزحمة في لبنان، حسب بطرس خوري الذي قرّر تقديم استقالته أمس من عمله في إحدى المؤسسات في بيروت الكبرى وهو القاطن في منطقة جبَيل، أصبحَت مشكلةً وطنية، وأنسَته ميوله الحزبية، فهو أكّد لـ«الجمهورية» أنّه لم يعُد يكترث إذا كان هناك 8 أو 14 آذار، فالإثنان لم يقدّما شيئاً للوطن سوى الكلام، كاشفاً عن أنه لم يشارك في التظاهرات طوال حياته مع أيّ فريق وفي عز الأزمة، لكنّه أكّد أنّه سيفعلها اليوم وسيحرّض أصحابه على التظاهر في الشارع وإعلان الثورة الفعلية، بعدما قضى عمرَه يَدفع ضرائبَ ومستحقّات لدولة لم تجازِه إلّا بقلّة الوفاء وانعدام المسؤولية.
وفجأةً تناولَ بطرس ورقةً بيضاء ووضَعها على مقوَد سيارته، وسألني عبر النافذة إذا كنتُ ما زلتُ أحمل قلماً، وحين أومأتُ له إيجاباً، سألني لماذا؟ قلت: لأكتب قصّتك، فسألَ مجدّداً: هل يمكنني استعارتُه لثوانٍ؟ وهنا حانَ دوري للسؤال، فسبَقني للإجابة: «لأكتبَ استقالتي».