هل يعني تصريف الأعمال بالمعنى الضيّق الذي تمارسه الحكومة بعد استقالتها، وفقاً لما نصّت عليه المادة 64 من الدستور، عدم إستمرارية الحكم وعدم جواز إجتماع الحكومة في غياب أي نص دستوري؟. وفيما يشارك الوزراء المستقيلون في جلسات المجلس الأعلى للدفاع، يصبح من المنطقي التساؤل : أليست حراجة الوضع التي تدعو المجلس الأعلى للدفاع للإجتماع قائمة لإجتماع مجلس الوزراء، وهل تعني إستقالة الحكومة إناطة صلاحياتها بالمجلس الأعلى للدفاع، تجاوزاً لصلاحيات مجلس الوزراء وخلافاً لما نصّت عليه المادة 8 من قانون الدفاع الوطني، التي حصرت قرارات المجلس بالإجراءات اللازمة لتنفيذ السياسة الدفاعية، كما حددها مجلس الوزراء؟ ثم من يولي الحق لهذا المجلس بتجاوز التعبئة الدفاعية والتعبئة التربوية والإقتصادية ونشاطات الإرشاد والتوعية التي أتاحها القانون؟.
وبالعودة إلى مقررات المجلس الأعلى للدفاع التي تناولت كلّ الأنشطة الروتينية للوزارات نتساءل، ألم تسترعِ انتباه المجلس أيٌ من المستجدات الأمنية والسياسية البالغة الخطورة التي قد تأخذ لبنان إلى المجهول، ألا تكفي التحركات والحشود العسكرية واستقدام القاذفات الإستراتيجية وحاملات الطائرات إلى المنطقة، والمصالحة المفاجئة بين قطر والمملكة العربية السعودية، وزيارات الوفود الإسرائيلية المكثفة للعواصم الخليجية، لإخراج المجلس الأعلى للدفاع من دائرة الإعتداء على الدستور الى الدور الذي أُنشىء من أجله؟ أليس حريّاً بهذا المجلس البحث عن مقاربة لتخفيف الضغط عن لبنان وتكليف وزارة الخارجية استدعاء سفراء الدول الخمس الوازنة أو مخاطبة الأمين العام لجامعة الدول العربية لطلب المساعدة؟ ألا يشكّل نفاد إحتياطات مصرف لبنان والشروع برفع الدعم عن السلع الأساسية، وردود الفعل المحتملة وتداعيات ذلك على الإستقرار الإجتماعي والأمني للبنانيين موضوعاً يقع في صلب مهام هذا المجلس؟
على المستوى الدولي يزداد الموقف تعقيداً، لا سيما بعد إنتقال الموقف الأوروبي تجاه إيران للتناغم مع الموقف الأميركي. وزير الخارجية الألماني «هايكو ماس» الذي تتولى بلاده رئاسة الإتّحاد الأوروبي، قالها وبكلّ صراحة «أنّ العودة للإتّفاق حول النووي الإيراني لم تعد كافية، وينبغي توسيعه ليشمل البرامج الباليستية الإيرانية والدور الإيراني في المنطقة، مؤكّدا أنّه متفق في هذه النقاط مع نظيريّه الفرنسي والبريطاني. يضاف هذا التطور إلى إجتماع وزراء خارجية الإتّحاد الأوروبي والجامعة العربية في العاصمة البلجيكية بروكسل يوم أمس، في إطار التحضير لقمّة الإتّحاد الأوروبي والجامعة العربية التي ستنظّم في مصر. كل ذلك يعني أنّ هناك إطاراً جديداً للعلاقات الأوروبية العربية، بأبعاده الأمنية والإقتصادية ومن ضمنها مواجهة نفوذ حزب الله وإيران ونشاطهما السياسي والعسكري، سيبقي لبنان منفرداً خارج أي إطار ضامن لإقتصاده وأمنه.
يصمت المجلس الأعلى للدفاع، أمام كلّ ذلك لأنّه يدرك أنّ لبنان الذي ارتضى مغتصبو قراره أن يكون إمتداداً لمشروع إيران النووي والتوسّعي في المنطقة، قد أضحى جزءاً من بقعة العمليات المرتقبة. تعبّر السلطات القضائية والإدارية والمؤسسات والأمنية المشاركة في اجتماعاته والقرارات التي يتّخذها، عن تعليق لدور مجلس الوزراء وشطبه من منظومة السلطة الإجرائية. الإنقلاب على السلطة التنفيذية من داخلها والإستعداد للمواجهة المقبلة مع الخصوم السياسيين قد بدأ فعلاً باستدعاء حاكم مصرف لبنان أمام القاضية غادة عون لاستيضاحه في ملف الهدر الحاصل في الدولار المدعوم، واستدعاء سبعة عشر موظفاً من وزارة شؤون المهجرين في قضايا إثراء غير مشروع، ويبدو أن المواجهة لن تتوقف بل ستواكب العهد وتتحكم بالإستحقاقات الدستورية.
المجلس النيابي بدوره يتصرف من موقع الفاقد للشرعية الشعبية، مع فشله المتكرر في إنتاج السلطة بعد استقالة الرئيس سعد الحريري، وهو يعيش حالة الإنفصام عينها التي تعيشها رئاسة الجمهورية ومعها الحكومة. يبدو المجلس مأخوذاً بالدفاع عن نفسه أمام اتّهامات اللبنانيين للكثير من أعضائه بالضلوع في ملفات فساد، ويعيش حالة استنفار غير معلنة نتيجة إنتقال الصدام مع رئيس الجمهورية الى داخل المجلس على خلفيّة قانون الإنتخابات والتدقيق الجنائي وسواهما. المجلس النيابي الذي يُعتبر حكَماً عند استقالة الحكومة في دورة انعقاد إستثنائية حتى تأليف حكومة جديدة ونيلها الثقة بموجب المادة 69 من الدستور، يقف عاجزاً عن دعوة لجنة الدفاع النيابية ولجنة الشؤون الخارجية لتقييم الوضع واقتراح اللازم في ضوء كلّ التهديدات التي تضج بالمنطقة.
يخوض الفريق الممسك بالقرار في لبنان مغامرتين متزامنتين، الأولى يمثّلها حزب الله الذي يجانب المواجهة مع المجتمع الدولي في ظلّ الضعف والوهن الذي تعيشه الجمهورية الإسلامية في إيران، وإصرار الإتّحاد الأوروبي والولايات المتّحدة والدول العربية على المواجهة. لا يجد حزب الله متاحاً أمامه سوى مغامرة القبض على لبنان في ظلّ انعدام الخيارات، وبالرغم من سقوط لبنان من إهتمامات كلّ القوى الإقليمية والدولية.
أما المغامرة الثانية فيمثّلها فريق رئيس الجمهورية المصرّ على استعادة حلم المارونية السياسية التي عاشتها الجمهورية الأولى، بالرغم من اختلاف المعطيات الديموغرافية والعلاقات الدولية التي ارتكز إليها أقطابها في حينه. تتلخص أدوات ووسائل هذه المغامرة بالإصرار على تجاوز الدستور وإقصاء رئيس الحكومة وتحويل المجلس الأعلى للدفاع إلى قيادة سياسية وأمنية وقضائية، والوصول إلى المواجهة الأمنية علّها تنتج ظروفاً مشابهة لما قبل اتّفاق الدوحة.
مغامرتان خطرتان تختطفان لبنان في ظلّ سلطتين متقابلتين ومشتبكتين، سلطة تشريعية مفكّكة من الداخل وعاجزة عن الرقابة والتشريع في جمهورية ديمقراطية برلمانية، وسلطة تنفيذية تحوّلت إلى مؤسسة ثأرية بعد أن اختار رئيسها التخلي عن صلاحياته. خطورة المغامرات وتناحر السلطات عنوانان نموذجيان لوطن مستباح.