بينما تجفّ الأنهار في لبنان أو تموت بالتلوث، يتدفق طوفان من الثرثرات السياسية حول القانون الجديد للانتخابات اللبنانية، لو جُمعت معا لشكّلت نهرا عظيما من أعظم الأنهار تدفقا في العالم! وعلى الرغم من الهبّات الباردة والساخنة التي تعاقبت حول ذلك القانون، فان الأجواء المخيّمة على الوسط السياسي والشعبي لا تعكس سوى معالم الحيرة والضياع. وليس في البلد اليوم من يستطيع ان يجزم من الآن، بما اذا كان التوافق بين المكونات السياسية سيتحقق خلال فترة الشهر من التأجيل الدستوري لانعقاد مجلس النواب لاقرار تمديد جديد للبرلمان، أم سيولد القانون الجديد هكذا فجأة، ويخرج من كمّ ثوب الساحر في طرفة عين!
***
السياسيون فئات، منهم قلّة تتحدث بحكمة عن دراية وتبصّر، ومنهم من يناور ويثرثر، ومنهم من كشّر فجأة عن أنيابه وأبرز مخالبه، بينما كان حتى الأمس القريب أشبه بالحمل الوديع، واذا تكلم كان صوته أشبه بثغاء الحملان! وكان الاجراء المتبع في الماضي، في موضوع قانون الانتخاب ان يتم على طريقة اعطِ خبزك للخباز. واليوم ظهر خبّاز جديد في الساحة أغرقها بطوفان من مشاريع قوانين الانتخاب الخارجة من فرنه الأوتاماتيكي، وكلها من عجينة واحدة، ولكنها بأشكال مختلفة! وهذا يحدث والكل يتبارى في الكلام وعرض المبادرات، وفي المقدمة وزير الخارجية جبران باسيل الذي كان الأكثر سخاء في عرض المشاريع، في حين ان المرجعية الوحيدة المخوّلة بالكلام والحسم، لا تزال صامتة، وهي مرجعية رئاسة الجمهورية…
***
ترى ما سرّ هذه الحشرة التي وقعت الجماعة السياسية، أو أوقعت نفسها فيها، وبقيت عاجزة عن اجتراح الحلّ في ربع الساعة الأخير كما كان يحدث عادة؟ الوزير ونقيب محامي طرابلس السابق رشيد درباس، وهو رجل اتزان وعلم وقانون وتجربة، كتب مقالا مستوحى من أجواء الفصح المجيد بعنوان العشّارون علّق فيه على الأجواء السائدة في البلاد حول قانون الانتخاب، وبنبرة لا تخلو من التهكّم قال فيه ما معناه ان مفهوم الديموقراطية الانتخابي وصل اليوم مع البعض الى وضع قاعدة جديدة هي ان يقوم المرشحون هم أنفسهم بانتخاب المقترعين!
***
اليوم فقط يفهم أصحاب الذهن الغليظ المغزى بعيد المدى لمفهوم السلّة الذي طرحه الرئيس بري في حينه على قاعدة التفاهم المسبق على انتخاب الرئيس والتوافق المسبق على قانون الانتخاب وأمور أخرى في سلّة واحدة. وكان هذا من رأي الأستاذ رشيد درباس الذي قال في مقاله: … ان الصفقة التي أدت الى انتخاب فخامة الرئيس كان يجب ان تتضمن توافقا على قانون انتخاب واقعي يقينا عثرة الفراغ، أو نكد الابتزاز… وهذه هي الحال التي وصلنا اليها اليوم. ومن المفارقات أن نقرأ اليوم في الصحف اللبنانية خبرين متجاورين في الصفحة الواحدة: خبر الخبيصة اللبنانية حول قانون الانتخاب، وخبر اطلاق دولة الامارات البرنامج الوطني لغزو الفضاء! والامارات هي نفسها التي كانت صحراء قاحلة قبل النفط عندما كان يقال عن لبنان في ذلك الزمان انه سويسرا الشرق!