IMLebanon

لبنان… «مستشفى الممانعة»

تنطبق على الواقعة التي حدثت في الجانب السوري غير المحتل من الجولان يوم الأحد 18 كانون الثاني 2015 تلك الشراكة بين إثنين كانا في طريق سفر وإلتقيا عند نبع ما ليرتاحا ويتناولا الطعام. أحدهما كان فقير الحال وليس في زاده سوى بعض الخبز والآخر مِنَ الذين أنعم الله عليهم وزوَّدته العائلة بأطايب يحتاجها ومنها بعض السمن وبعض العسل وبعض الطحين يصنع منها بعد مزْجها وطبْخها طَبقاً حلو المذاق فلا يجوع إلى أن يصل إلى حيث يتوجه.

وحول نبع الماء جلس الإثنان ولاحظ فقير الحال ما أخرجه رفيق السفر الميسور الحال إستعداداً لإعداد وجبة ويتعاونان في إعدادها، فلم يجد ما يقوله كونه يقرض الشِعْر سوى بيتيْن هما: منكَ الطحين ومني النار أضرمُها… والماء مني ومنك السمن والعسل. وبطبيعة الحال رحب ميسور الحال وشبع شِعراً قبل أن يأكل طعاماً.

وبالنسبة إلى الواقعة الجولانية نرى أن دور الجانب السوري مثل ذلك الذي يقرض شِعْراً أما السمن والعسل فيتمثَّلا بعناصر من الصف المتقدم في الجناح العسكري من «حزب الله» وبعض الخبراء العسكريين الإيرانيين، وليس بين هؤلاء عسكريون من الجيش السوري. وهذا أمر غير مألوف ولم تسجِّل وقائع سابقة حدوث مثل هذا الأمر. كما أن الواقعة أفرزت بضع إجابات عن كثير من التساؤلات حول الدور العسكري الفاعل والمتنامي لإيران ومَن يلوذ بها مثل «حزب الله» في الصراع الدائر منذ أربع سنوات في سوريا.

في أي حال كانت العملية بالغة القساوة على نفس السيّد حسن نصر الله الأمين العام لـ «حزب الله» كونها إصطفَّت من حيث علامات الإستفهام والتعجب إلى جانب العملية التي إستهدفت القائد العسكري الأبرز عماد مغنية في المنطقة العسكرية الأكثر يقظة في العاصمة دمشق. ومن هنا كان الأمر الوحيد الذي يُخفّف من حدة التأثر والغضب واللوم هو الرد على تلك العملية وبحيث تكون من نوع العين بالعين والسن بالسن على نحو القول الثأري المتداول بين أصحاب القضايا العصية على التسوية. وجاءت العملية التي إستهدفت مجموعة إستطلاع إسرائيلية والتي يرتاح ضمناً لها الرئيس باراك أوباما لأنها تنال من هيبة الذئب نتنياهو الذي يبالغ في تحدي الرئيس الأميركي، وهي عملية شبيهة من حيث القصد بمجموعة الإستطلاع التي استهدفتْْها إسرائيل وقضى فيها أفراد من الكوادر العسكرية في «حزب الله» وأحد جنرالات الحرس الثوري الإيراني يوم الأحد 18 كانون الثاني 2015 في القنيطرة (الجانب السوري غير المحتل من الجولان).

وإستناداً إلى مضمون خطاب السيّد حسن نصر الله يوم الجمعة 30 كانون الثاني 2015 نستنتج كم أن عملية القنيطرة كانت شديدة الوطأة على نفسه كما على جمهور «حزب الله» الذي كان أسلوب تعبيره الرصاصي عن فرحته بالعملية الثأرية لمناسبة إطلالة السيّد حسن لا يريح نفوس أفراد المجموعة التي قضت في القنيطرة وهم تحت التراب ورحمة رب العالمين. ولو أن الرد على العملية كان من القنيطرة نفسها لكانت نوعية الثأر ستبدو أكثر أهمية.

ما يستوقف المتابع مثل حالنا لمفردات الخطاب المقاوم قول السيّد حسن في إطلالة الإبتهاج بالعملية الثأرية في مزارع شبعا «نحن في المقاومة لم تعد تعنينا قواعد الإشتباك ولا نعترف بها ولم نعد نعترف بتفكيك الساحات والميادين ومن حقنا الشرعي أن نواجه العدوان أياً كان وفي أي زمان وكيف ما كان…». هذا الكلام يعني أن لا قيمة بعد الآن من وجهة نظر السيّد حسن لأي إتفاقات وأي توافقات. وعلى هذا الأساس فإن المواجهة مع إسرائيل ستكون عدواناً من إسرائيل ورداً عليه من المقاومة وهذا أمر من الطبيعي حدوثه بين «حزب الله» وحده في لبنان من دون أن تعني مسايرة «حركة أمل» لهذا الأمر تأييداً لا مجال للمناقشة فيه، كما من دون أن يعني الصمت الإضطراري لبعض المسيحيين وأكثرية الدروز وسائر الأقليات في لبنان تفويضاً لـ «حزب الله» بأن يؤدي الدور الذي يريده ومن دون أن يعير الإتفاقات التي تحتوي الأسباب الموجبة للإشتباك أي إعتبار. وهذه الأطراف تعيش أزمة عذاب الضمير وهي تواكب حالة الذبول التي يعيشها لبنان وإلى درجة أن الوطن الذي كان منارة إنتهى إلى شمعة على أُهبة الإنطفاء إذا كان لن يتم تدارُك الأمر وفي إطار تَوافُق عربي – دولي- إقليمي على ضرورة تحييد لبنان في الحد الأقصى خصوصاً أنه أدى الواجب النضالي على مدى سنوات وأن غيره سيجني مكاسب التعويض عن سنوات النضال، أو إقناع وربما إقتناع بعض الأطراف التي لا تقرأ سوى في كتاب الممانعة ونعني في الدرجة الأولى النظام الإيراني والنظام البشَّاري بأن ينحصر دور لبنان ما دام هذان النظامان ومعهما الذراع الأقوى بين الأذرع المحروسة والموعودة من الثورة الإيرانية بمكافأة لا تقدَّر بثمن، في أن يكون إذا جاز القول «مستشفى الممانعة». اما المكافأة الثمينة فهي بالنسبة إلى الرئيس بشَّار تمكينه من إستعادة وجود نظامه في لبنان وهيمنة هذا النظام على لبنان، وبذلك لا يعود أسير الحالة النفسية التي يعيشها منذ أن إضطروه للإنسحاب مرغماً من لبنان. والتمكين الذي يقصده التنظير الثوري الإيراني يستند إلى الشأن الأساسي العسكري والمذهبي لـ «حزب الله» وذلك الشأن التدعيمي وإن إختلفت النظرة من جانب جمهور «حركة أمل» وزعيمها الرئيس نبيه برّي. ومع هذين الشأنيْن بعض الأطياف المسيحية إنما على مستوى متزعمي هذه الأطياف أما الجمهور في هذه الأطياف فإن رأيه يختلف. وعندما يستعيد النظام البشَّاري الشأن الذي كان عليه في لبنان يحقق مبدأ «المثالثة» وربما إعادة تدوير للمناصب الفاعلة. كما ربما يحقق ما يتم التخطيط له منذ سنتين بطريقة فاعلة في اليمن بحيث تنكسر الصيغة المتعارَف عليها ويملك السلطة من هو الأقوى: الحوثيون الذراع القوية تسليحاً في اليمن للثورة الإيرانية، و«حزب الله» الذراع المماثلة في لبنان. وحتى الآن فإن الذي يحدث في اليمن يقترب من مشارف الأمر الواقع.

وبالعودة إلى مسألة تحييد لبنان في الحد الأقصى وهو أمر قد يراه البعض نوعاً من الإستحالات، أو التعامل معه على أنه «مستشفى الممانعة» فإننا نستند في ما نقول إلى أنه ما دامت الثورة الإيرانية لن تتراجع عن مشروعها وما دام النظام البشَّاري بات في حالة شبيهة بحالة من كان يسبح بين شاطئيْن بعيديْن ووصل إلى منتصف المسافة وبات من وطأة التعب أمام خياريْن: يواصل العوم وقد لا يصل إلى شاطئ الأمان أو قد يعود إلى الضفة التي إنطلق منها ويكون بذلك خسر الرهان، وما دام «حزب الله» أعلن من خلال أمينه العام كلاماً لا عودة عنه مع قواعد الإشتباك، وما دامت ساحة الممانعة هي، بعد عملية القنيطرة ربطاً بعمليات كثيرة في مناطق عدّة، سوريا… إنه ما دام الأمر على نحو ما نشير فمن مستلزمات الممانعة أن يكون لديها أفضل ملاذ طبي كما الحال بالنسبة لكل جيوش العالم عندما تخوض مواجهات وتكون لها مستشفيات ميدان متنقلة على أن يتم نقل الجرحى إلى المستشفى الأكثر تأهيلاً.

وفي نظرنا يبدو لبنان أنه المؤهل لذلك ففيه من المستشفيات ما يحقق لمعسكر الممانعة أفضل العناية الطبية، فضلاً عن أنه بذلك يخلُد إلى إستراحة من ضوضاء أنواع الجهادات التي يعيشها، في الماضي تظاهرات ومسيرات ونشاطاً إعلامياً فاعلاً، ثم بعد ذلك ميليشيات فنجدة من الأخ السوري الذي طاب له المقام والبقاء فتصرَّف على أساس أنه رب المنزل وليس الضيف. وإنتهى الأمر إلى مقاومة إختلطت فيها المبدئية بالمصالح ثم غدت ورقة في أيادي الأصدقاء والأشقاء والأشقياء. وعندما تكون الحال على هذا النحو يصبح من الطبيعي تحييد لبنان وتلك خير خدمة يسديها السيد حسن إذا هو شاء وشاء حليفاه الإيراني الخامنئي والسوري البشَّاري. وما دام ذلك على درجة من العسر فإن الأمر اليسير هو في حال أنه لا بديل عن خيار الممانعة أن يكون لهذه الممانعة مستشفاها، وهو ما يحتاجه مثلث هذه الممانعة خصوصاً إذا قرّر النظام الإيراني ترجمة تحذيراته لإسرائيل التعامل مع الأرض السورية كميدان لتحويل التحذيرات إلى فِعْل، وإذا قرّر «حزب الله» أن يكون الميدان السوري هو أرض المواجهة إنطلاقاً من رؤية إستراتيجية تقوم على أن سقوط النظام البشَّاري يتسبب في إنكفاءة لفريق الممانعة وإستطراداً للمشروع الإيراني.

للإمام علي كرَّم الله وجهه كلام شِعْري مأثور يلائم إستحضاره ما أعلنه السيّد حسن في شأن قواعد الإشتباك. والكلام الشِعْري هذا هو: «فالجرح جُرْح اللسان تعلمُه.. ورب قول يسيل منه دمُ». أعَان الله لبنان ووقاه من شر العدوان الذي أستؤنف الحديث حوله من ذئاب إسرائيل وتداعيات الثأر الذي لا بدّ منه يؤديه كواجب  عناصر من «حزب الله».