لبنان هو هكذا، وتغييره مستحيل. مستقبل لبنان هو صورة أشد بشاعة من ماضيه. مستقبل الطائفية هو المزيد منها. مسار الطائفية يؤكد أنها صاحبة الحق الحصري والكلي، في النظام والمجتمع والسياسة والتربية والمال في لبنان، بل هي الدولة والنظام والمؤسسات والجموع المكدَّسة تأييداً وتأبيداً لها. لا علاقة لنصوص الدستور والمواد القانونية ومنطق المؤسسات والانتماء إلى هوية جامعة، بكل ما يحدث في لبنان الرسمي والشعبي. الدستور مصاب بفقر اعتراف ومرجعيته منقوصة، تسبقه ضرورة «التوافق». فإن تعذر الاتفاق، تعطل النظام وفرغت المؤسسات وافتقدت السيادة وتضاءل الاستقلال وانشطر الوطن بين طوائف ومذاهب، متصلة بدول وأوطان على هواها الديني والسياسي ومشتقاتهما المالية.
لا يمكن الاستهانة أبداً بمتانة وجدارة الطائفية. من دونها، هذا اللبنان لا وجود له، ومعها، لبنان مهدد بوجوده.
لذا، لبنان هو هكذا وتغييره مستحيل.
آليات التغيير، تقف عاجزة أمام جمود هذا الكيان في مواقعه الرجراجة. الديموقراطية التي تم تطعيمها بالطائفية، التزمت حدود التمثيل الطائفي، فقط، بهدف الحفاظ عليها. الآلية الديموقراطية، في دول الاعتماد على المواطنة، تعتبر أداة للتغيير والتحسين والتداول، بطريقة سلمية. هذه الآلية معطلة في لبنان.
الاشتراك بالانتخابات اللبنانية، من قبل قوى لا طائفية، غير مجدية. أثبتت التجارب أن هؤلاء، إن جاؤوا في القاطرة الانتخابية، بزعامة مكرَّسة طائفياً ومذهبياً، لن يكونوا إلا شهوداً صامتين أو فَعَلَة في ورشة الزعامة الطائفية. قلما شهدنا، بعد استفحال الاصطفاف الطائفي، «نشازاً وطنياً». سكة القطار الطائفي انتخابياً، تتوقف إلزامياً، عند محطات محددة سلفاً. النائب اللاطائفي يتمذهب، مثله مثل النائب الذي يكون لاجئاً طائفياً عند أكثرية لا يمت إليها بنسب ديني أو إيماني. القطار يتسع لركاب كثر، ولكن القائد واحد والوجهة واحدة والكلام واحد.
لبنان هو هكذا. تغييره مستحيل.
ظن البعض أن التغيير ممكن بواسطة الانقلاب العسكري. أقدم القوميون على محاولة فاشلة. ولدى قراءة الاستعدادات وتبين المهمات، ظهر أن المسألة كانت سياسية بحتة، لا علاقة لها بتغيير النظام. فالمناصب والمسؤوليات كانت ستوكل إلى الطوائف نفسها، احتراماً للأعراف. علمانيته مؤجلة.
ظن البعض، وهو من أهل اليسار، أن التغيير ممكن بالوسائل النقابية والمطلبية، أو بالثورة وحمل السلاح. كان حمل السلاح كارثة على الوطنيين والتقدميين والعلمانيين. جيوش الطوائف أقوى بكثير من نخب الأحزاب العقائدية. ولقد أسفرت الحروب اللبنانية عن خسائر تكبدتها هذه الأحزاب. دفعت دماً ثمن تغيير مستحيل. تقدمت في جبهات القتال، واستبعدت عن مقاعد وطاولات الحلول… مشاريع الحلول ومؤتمرات الحوار وأوراق العمل كلها، كانت مخصصة لزعماء القبائل الطائفية. من بيت الدين إلى لوزان إلى جنيف إلى الاتفاق الثلاثي.. فالطائف.
على أن هناك من قرر أن يحفر الجدار بالإبرة، وأن يبدأ بالتغيير الآن وأن يواظب عليه، على ان يثمر خطوات ومكتسبات لا يمكن العودة عنها. أي اعتبار التغيير عملية مستدامة، من خلال مبدأ مراكمة الإنجازات وترسيخها، لتصبح واقعاً لا يمكن التغافل عنه أو تجاوزه. أي، بعبارة أخرى، أن عمر التغيير مديد، يبدأ الآن، ولكنه لا ينجز إلا في تاريخ لاحق.
التغيير الديموقراطي بواسطة قوانين انتخابية طائفية، غير ممكن. التغيير بالقوة مستحيل. الطوائف والمذاهب مستعدة لخوض المعركة تلو الأخرى، للحفاظ على مكتسباتها أو للاستزادة منها. لقد ورثنا بعد حروب لبنان الأخيرة، بلدا تستعد قواه الطائفية لمنازلة، عند كل منعطف. ولو أن القوى الراهنة متعادلة أو متوازنة تسليحاً، لكانت خطوط التماس قد ارتسمت بين الأحياء والضواحي والمناطق. الدويلات أقوى من الدولة. بل ان الدولة هي في حماية الدويلات.
الحفر بالإبرة، لم يعرفه التقليد الحزبي. طريق الأحزاب إلى التغيير هو باستلام السلطة بالقوة العسكرية. وبسرعة يحتل العسكر الحزب والسلطة معاً، فيلغي الحزب وتتأبد السلطة. حصل ذلك في غير لبنان. لم تتقدم دول استولت فيها أحزاب أو عساكر على السلطة. الركام العربي الراهن ابن شرعي لنسل العسكر والعسس والشرطة. خريطة العالم العربي دليل على فداحة التغيير من فوق، بالقوة العسكرية، ودليل على منع التغيير بواسطة الميادين بعد اندلاع ربيع «البوعزيزي»، بالقوة والقمع والحرب.
على الضفة الأخرى، اختارت نخب لبنانية ملتزمة أن تبدأ التغيير من خلال عملية حَثِّ أو من خلال الحفر بالإبرة، في جدار النظام الطائفي. ان خلق كوة في النظام، أو في أساس النظام، هو المعول الأول في هدمه، ولو بعد تاريخ. إسقاط النظام الطائفي دفعة واحدة مستحيل. إسقاطه بالضربات المتتالية، في مفاصله، هو أول الطريق لإضعافه وإنهاكه وإنهائه.
أقدم طلال الحسيني على نزع «واسطة عقد» النظام، من خلال ما عمل عليه، من أجل «شطب الإشارة إلى الطائفية» في سجل النفوس.
اللبناني طائفي غصباً عنه. يولد ويسجل في خانة والده وعلى مذهبه. ومطلب الشطب يعني أساساً، إعادة حق الفرد في اختيار دينه ومذهبه أو عدم اختياره، تأسيساً على حقه في حرية التفكير وحرية المعتقد، التي كفلها الدستور اللبناني وكفلتها الشرائع الدولية الخاصة بحقوق الإنسان.
من يشطب الإشارة إلى طائفته، يخرج من الطائفية إلى فضاء المواطنة. إن تمنَّع عن ذلك، يظل طائفياً، حتى لو كان ملحداً أو علمانياً. فالطائفية ليست معتقداً، بل هي وظيفة، ولها مهمة، ترسيخ قاعدة النظام بإلزام اللبنانيين، وبالرغم عنهم، بأن يكونوا طائفيين. وعليه، فكل من لم يشطب الإشارة إلى طائفته، هو طائفي عملياً، ولو لم يرد ذلك. فشعب لبنان طائفي باستثناء من شطب الإشارة إلى طائفته.
ما أنجزه طلال الحسيني، يستند إلى مواد دستورية وشرعة دولية، ومنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وهذه، مع سواها من المواثيق، تؤكد حرية التفكير وحرية الضمير وحرية الدين وحرية المعتقد وحرية التصريح عنه أو عدم التصريح وحرية الانتساب الديني وعدمه (والدولة اللبنانية في النص، ليست دولة دينية بل هي دولة مدنية)، كما يستند الى أن «من واجب القائمين بأعمال الدولة تسهيل تجاوز الطائفية لا تكريسها. كما هو مذكور في البند «ح» من مقدمة الدستور. ان طلب «الشطب» لا يلزم لاستجابته إلا تطبيق النصوص الدستورية والقانونية القائمة، ورفضه ليس سوى مخالفة صريحة لتلك النصوص».
لا يطلب رأي السلطة في هذا الصدد. ليس عليها إلا تطبيق النص الدستوري والمواد القانونية، وعدم قيام الوزارات والمؤسسات الرسمية بذلك، مخالفة تقتضي ملاحقة مرتكبها بجرم مخالفة القوانين، ومعاقبته. خافت الطبقة السياسية من هذا المنحى في العمل. فتمنعت ومانعت وسخرت وحاولت جاهدة لإفراغ هذا الطلب من وطنيته. كما خافت من الخطوة الثانية التي جاءت بعد مرحلة «الشطب» والقاضية بشرعية عقد زواج مدني داخل الأراضي اللبنانية.
الطبقة السياسية تخاف من هذه الحرية، لأنها ستستدعي في ما بعد، الاعتراف بحقوق المواطن المتحرر من الطائفية كاملة، أي الحقوق المدنية والسياسية التي تؤهله ليكون حراً في خياراته وسيداً في مساحته المدنية.
الدرب طويل؟ لمَ لا. ولكنه درب يوصل إلى البيدر. هذه محاولة دؤوبة، إذا ما تمت المثابرة عليها، فستخلق على الأرجح شريحة واسعة من المواطنين المتحررين والأحرار والذين لا حجة لهم في التخلف عن إمساك مصيرهم بيدهم، سياسياً واجتماعياً.
الغريب هو هجرة المثقفين عن هذا المسار. سخريتهم منه. تهاونهم في الدفاع عنه. عدم تجندهم في هذه المعركة… أي دور للمثقف بعد ذلك، إذا كان يتخلف عن حقوق وتطلعات ورؤى مستقبلية؟
الحفر بالإبرة، هو ما يقدم عليه نزار صاغية. القانون مرجعيته. يصوِّب حيث الخطأ، يسدِّد حيث النقصان. ينجز من القضايا ما كان متروكاً على عواهنه. يقف إلى جانب حقوق الناس، ويدافع عن مظلوميتها بالنص والموقف. حيث تكون الحرية يكون، لصيانتها وليس لانتهازها. أمسك بملف المفقودين، واستطاع ان يحرر هذا الملف من أسر السياسيين المزمن. قالوا من حقنا ان نعرف مصير أبنائنا المخطوفين والمفقودين. جاءهم بالنص والبيان، فخضعت «اللجنة المتعمدة غيابها». وقف إلى جانب حرية العمل الفني، وضد الرقابة المفروضة على المسرح والسينما. ومسيرته طويلة. ولكنها بحاجة إلى نخب وآليات لتصبح تياراً، يستند إلى النص، لنصرة الحق. هذا ما يسمى عملاً من داخل النظام، لانتزاع الحقوق منه.
خسر الوزير شربل نحاس معركته من داخل النظام. أصرَّ على نهج التقيد بالقوانين بين مجموعة انتظمت أساساً بتحويل القانون إلى شكل أو إلى لباس، «تزين» به التسوية. خسر نحاس بالضربات القانونية. ارتدَّت عليه ولم تتغلب على موقفه وصلابته. تأكد للمتابعين أن التغيير من داخل النظام عبر الاشتراك بالسلطة مع عتاة الطبقة السياسية المهتمة بإيجاد المخارج للتسويات، غير ممكن. لم يقو نحاس على السلطة. حلفاؤه تخلوا عنه. بل طعنوا به. بل حرضوا عليه. لا مكان لمن يعتصم بالقانون في السلطة. السلطة لا تحتمل إلا فلسفة تدوير الزوايا، أو بمعنى آخر، تزوير الوقائع والحقائق والتهرب من المواجهة.
على أن تجربة نحاس، تبقى أمثولة يمكن التحصن بها مستقبلاً. أما الكيفية فمتروكة للظروف. الظروف الراهنة غير مؤاتية أبدا. الطبقة السياسية مستشرسة في المحاصصة، وفي التغاضي عن تنفيذ القوانين.
وخسر حنا غريب كذلك، استمراره كان معجزة. طريقه كان محفوفاً بخطر الانقضاض عليه، من «الجسم النقابي المعتل طائفياً وتبعية». كان ضوءاً في ليل النقابات الطويل. أتعبهم حنا غريب. كان صلباً في الدفاع عن الحقوق ولا مساومة عليها. خسر أمام طاغوت المال وغيلان الطوائف المتحدة. تحملوه على مضض. كان فوق طاقتهم على الصبر. خلعوه عنهم. جميعهم ضده. من أقصى الممانعة إلى أساس المسالمة. الأضداد كلها تجمعت ضده وأخرجته، وقيدت العمل النقابي بطاعة أولي الأمر، من الزعامات.
أربع محاولات من الحفر بالإبرة. وهناك أكثر من ذلك في تيارات المجتمع المدني، لكن ما ينقص هذه الآلية، أنها تعمل بصيغة المفرد، ولم ترتق بعد إلى صيغة الجمع.
لعل أحداً يخرج ليقول لكل العاملين خارج مؤسسات النظام الطائفي وضده، اتحدوا، نسقوا. اتصلوا. قولوا للناس قولاً واحداً مختلفاً. كونوا نداء واحداً، فقد يستجاب للنداء.
هذا أمل يحتاج إلى حراسة ونبل وعطاء. عندما يكون العنوان: لبنان المستحيل، تغييره ممكن.