تفرض علينا الواقعيّة أنّ نسلّم بأنّ التظاهرة الدبلوماسية الإيرانية العربية التي نشهدها ليس مردها الميزات التفاضليّة التي يحظى بها لبنان، والتي تجعله مقصداً ومحطاً لإهتمام العرب والأعاجم على حدٍ سواء. هذه التهيؤات لم تكن يوماً موجودة سوى في بعض السرديات اللبنانية وهي لم تعبّر يوماً سوى عن جهلٍ بحقائق الجيوسياسة. إنّ النظر بواقعيّة للزيارتين الحاصلتين، بما تمثّلان، في الشكل والمضمون، من رؤيتين مختلفتين للبنان وللنظام في سوريا وللدور الإيراني في المنطقة يعطي أكثر من إجابة على أكثر من سؤال.
أولاً، لم يعبّر وصول الوزير محمد جواد ظريف إلى مطار بيروت دون إبلاغ وزير الخارجية اللبناني، عن تقييدات أمنيّة استوجبتها الزيارة، بل عن أريحيّة أراد الوزير المبتسم دائماً التعبير عنها، في عاصمة أُعلن سقوطها من بين أربع عواصم عربية في يد طهران، فلا قيمة ولا ضرورة للشكليات والمظاهر البروتوكولية، التي عادةً ما تتبادلها دولتين ذات سيادة. لقد أشار الاهتمام الرسمي اللبناني بالزائر الإيراني، والحفاوة التي لاقته في القصر الجمهوري وفي وزارة الخارجية والتي عبَرت عنها المؤتمرات الصحفية، إلى الشراكة الثابتة والواعدة التي ضمنت الإنتخابات الرئاسية والمستمرة بعدها.
يدرك الزائر الإيراني أنّ المساعدات العسكرية التي يعرضها هي غير ذات جدوى ولا يمكن قبولها. فمنظومات الدفاع الجوي الإيرانية لم تستطع حماية المواقع الإيرانية في دمشق من الهجمات الأسبوعية للعدو الإسرائيلي، ويستحيل قبولها لأن لبنان ملتزم برنامج المساعدات الأميركية. لكنه تصرّف كممّثل لدولة صاحبة نفوذ وراعيّة يقوم بزيارةٍ لدولةٍ نامية، فوضع إيران في مصاف الولايات المتّحدة وغيرها من الدول المانحة. أغدق العروض بسخاء، فلاقاه وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل بالتشديد على أنّ الإستفادة من العروض الإيرانية تتم دون وجود أي ضغوط ووفقاً لمصالح البلدين.
بدوره، وزير الخارجية قدم لنظيره وغب الطلب قراراً بعدم مشاركة لبنان في مؤتمر وارسو. لا شك بأنّ عدم المشاركة هو قرار مبدئي يجمع عليه اللبنانيون لأنّ إسرائيل تشارك في المؤتمر. أما الحجة التي أوردها الوزير بأنّ لبنان لا يشارك بسبب التزامه سياسة النأي بالنفس، بحضور وزير تتدخل دولته في أكثر من دولة ويقوم وزير خارجيتها بزيارة حزب سياسي تقوم بتسليحه، فبدت غير قابلة للهضم وفيها كثير من الإستخفاف بعقول اللبنانيين. هذا إذا تجاوزنا موضوع الأعراف الحكومية التي تستوجب صدور هذا القرار عن مجلس الوزراء وليس عن وزير الخارجية.
ضياع البوصلة السياسية والتشتت في القرار اللبناني كان واضحاً في الملفات التي أثيرت بالمفرق من هنا وهناك. فهل أرادت الدولة اللبنانية المزيد من الإضاءة على الدور الإيراني ولو شكلياً، أو تحميله هواجسها، فألقت على زائرها عبر كلام رئيس الجمهورية ووزير الخارجية مهمة الإضطلاع بدور في مسألة اللاجئين السوريين، مع علمها المسبق أن هذا الملف لا يقع ضمن دائرة اهتمام إيران وهو أحد الملفات التي تتناولها الحكومة من خلال المبادرة الروسية والتي يتم التشديد عليها في كافة اللقاءات مع المعنيين في موسكو؟
ثانياً، لم تخفِ الدبلوماسية الناعمة للأمين العام للجامعة العربية وهدوءه المعروف امتعاضاً يمكن تلمسّه من خلال الإجابات المقتضبة التي قدّمها في مؤتمره الصحفي. لقد خرج الأمين العام للجامعة العربية برفض رئيس الجمهورية المشاركة في مؤتمر القمّة الأوروبي الذي سيعقد في شرم الشيخ في الرابع والعشرين من الشهر الجاري، والسبب معروف هو الخلاف مع الدول الأوروبية حول موضوع عودة اللاجئين السوريين، وتفسير العودة الآمنة والعودة الطوعيّة. كما يظهر أنّ لبنان الذي يبدو مكلّفاً بالتحفيز الدائم لموضوع عودة سوريا إلى الجامعة العربية، لم يلاقِ أي تجاوب في الموضوع، فانعكس ذلك سلباً على المزاج العام للزيارة. هذا بالإضافة إلى أنّ الأمين العام لم يلاقِ الاندفاع اللازم في متابعة مخرجات القمّة الإقتصادية التي عقدت في بيروت والتي يرأسها لبنان لمدة أربعة سنوات.ِ
توحي الزيارتان والزيارة التي ستليهما لمستشار الديوان الملكي السعودي نزار العلولا أنّ أداء الحكومة اللبنانية وقدرتها على العمل سيكون رهن التجاذب الإقليمي الحاد، والتسويّات الدوليّة المنتظرة. وإنّ الأولوية التي تعطيها الحكومة للملف الاقتصادي سترتبط إلى حدٍ بعيد بمدى قدرة لبنان على النأي بنفسه عن لعبة المحاور. إن إبتسامات الوزير ظريف لا يمكنها أن تخفي الوضع المأزوم لإيران في سوريا وأزمة الثقة مع روسيا، ولا يمكن لإيران أن تخسر في سوريا والمنطقة وتربح في لبنان، كما لا يمكن للبنان أن يبقى الساحة الوحيدة التي تتصرف فيها سوريا على أنها الرابح الأكبر في حين هي خاسرة في سوريا وفي العالم العربي وفي طهران، ولا يمكن لبعض السياسيين الطامحين أن يفرضوا على لبنان في سبيل ذلك أدواراً مستحيلة.
* مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والإستشارات