على الرغم من التحديات الحادة التي هددت عافية لبنان في السنوات الأخيرة، فقد حافظ هذا البلد على قدر مهم من الاستقرار والتعايش والازدهار رغم الحروب والمجازر الطائفية والإثنية التي تدور من حوله. ومع انتهاء عام 2014 وبداية عام 2015، يجدر باللبنانيين التمسك بهذه المكتسبات مع المضي قدماً بتعزيزها عبر سد الثغرات السياسية في سدة الرئاسة والانتخابات البرلمانية، وتعزيز الجيش، وإطلاق عملية استخراج ثروة الغاز البحرية.
أولاً: وفرت الصيغة الأساسية للتعايش بين مختلف الطوائف والتشارك في السلطة المنصوص عليها في اتفاق الطائف لعام 1989، ربع قرن كامل من الاستقرار في البلاد. وهذا يقرب من ضعف الفترة الوجيزة من الاستقرار التي تمتع بها لبنان بين الاستقلال عام 1943 والحرب الأهلية القصيرة عام 1958، أو الفترة بين عام 1958 والحرب الأهلية الثانية التي اندلعت عام 1975.
وبينما تمزق سورية المجاورة حرب طائفية وإثنية، وتهلك سكانها القنابل والبراميل وقطع الرؤوس، كما يفتت العراق الصراع الطائفي والعرقي، فقد تمكن لبنان من الحفاظ على واحة من التعايش. وهذا إنجاز حضاري وتاريخي ليس بسيطاً. وعلى الرغم من أن اتفاق الطائف يشوبه العديد من العيوب في بعض بنوده وكذلك في الطريقة التي تم بها تطبيقه، إلا أن الاتفاق الأساسي على العيش المشترك والمشاركة في السلطة هو أمر جوهري، وهو صيغة سيتحتم على كل من سورية والعراق، عاجلا أو آجلاً، احتضانها، إذا أرادا إنهاء الحروب الأهلية وخلق مجتمع متعايش ومنفتح.
من بين عيوب اتفاق الطائف، ضعف السلطة التنفيذية التي تتبدد بين سلطة الحكومة ورئيس الوزراء ورئيس الجمهورية. كما أن النظام اللبناني يعزز الخلافات الطائفية السياسية حتى في الوقت الذي يهدف فيه إلى إدارتها. ومن علامات هذه العيوب أن البلاد بلا رئيس منذ سنة تقريباً ومن دون انتخابات برلمانية كان مقرراً أن تجري قبل عامين.
إلا أن هناك محادثات تجري لتحريك العملية السياسية، منها بين تيار «المستقبل» و»حزب الله»، وأخرى بين العماد ميشال عون والدكتور سمير جعجع. المحادثات بين «المستقبل» و»حزب الله» هي الأولى منذ سنوات عديدة. وكان الطرفان قد شاركا في هيئة الحوار الوطني عام 2006 بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وفي الدوحة بعد اشتباكات بينهما في بيروت في أيار (مايو) 2008. واحتدم الخلاف بينهما منذ كانون الثاني (يناير) 2011 عندما أطاح «حزب الله» بالحكومة التي كان يرأسها سعد الحريري، ولكن انضم كلا الطرفين إلى حكومة الوحدة الوطنية التي شكلها تمام سلام في شباط (فبراير) 2014. وعاد سعد الحريري إلى لبنان في شهر آب (اغسطس) من العام الماضي، بعد غياب ثلاث سنوات. انطلقت المحادثات الأخيرة منذ أسابيع من دون جدول أعمال واضح أو معلن ولكن يؤمل منها ترسيخ التواصل بين الطرفين.
هناك العديد من الأسباب الداخلية والخارجية لهذه المحادثات. داخلياً: يريد الطرفان تخفيف التوترات الطائفية الخطيرة بين السنّة والشيعة في لبنان. كما أنهما قد يرغبان في مناقشة سبل تنشيط عمل الحكومة والبرلمان، في الوقت الذي لا تزال الرئاسة شاغرة. وقد يكون الحريري نفسه مهتماً أيضاً باستكشاف إمكانيات عودته إلى السلطة على رأس حكومة جديدة. ولكن تثبيت رئيس وزراء جديد وحكومة جديدة يتطلب، دستورياً، انتخاب رئيس جديد للبلاد. لكنّ كلاً من «المستقبل» و»حزب الله» نفى أنه سيتم مناقشة مسألة الرئاسة في محادثاتهما، حيث يتركان هذه المسألة إلى حلفائهما المسيحيين.
من جهة أخرى، أعلن زعيم «التيار الوطني الحر» ميشال عون، حليف «حزب الله»، ورئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع، حليف «المستقبل»، عن عزمهما على اللقاء رغم عقود من الخلاف. والرجلان مرشحان للرئاسة، ولكن يتوقع أن يبحثا سبل الخروج من هذا المأزق. في حين أنه من غير المرجح أن يحقق هذا الاجتماع انفراجاً مباشراً، إلا أنه قد يبدأ في خلق مساحة للتسوية والاتفاق في نهاية المطاف على «مرشح ثالث».
إقليمياً: إيران التي استنزفتها العقوبات الاقتصادية، وانهيار أسعار النفط، والحرب في سورية، مهتمة بتخفيف الضغط عن حليفها «حزب الله»، وتشجعه على المساهمة في تسويات داخلية طالما لا يطال ذلك مصالحها الاستراتيجية. والمملكة العربية السعودية، من جهة أخرى، في حين أظهرت قوتها العالمية في استخدامها سلاح النفط، إلا أنها قلقة من استمرار الأزمة السورية، ولديها مخاوف من تمدد الجماعات المتطرفة مثل تنظيم «داعش». كما أدركت الرياض أن العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران، سواء حصل اختراق في شأن الاتفاق النووي أم لا، انتقلت من المواجهة إلى الديبلوماسية. وقد شجع كل من إيران والسعودية حلفاءهما في لبنان منذ عام 2011 على تجنب المواجهة حتى في الوقت الذي كانت الدولتان تدعمان الأطراف المتحاربة في سورية. ويدرك كل من إيران والسعودية أن استقرار لبنان أمر هام بالنسبة إليهما، وأن هذا البلد بحاجة إلى المضي قدماً في القضايا السياسية والأمنية والاقتصادية الرئيسية.
سياسياً، تتمثل التحديات الأساسية في انتخاب رئيس، وتشكيل حكومة جديدة وصوغ قانون انتخابات لإجراء الانتخابات النيابية التي تأخرت طويلاً.
ربما كانت إحدى النتائج السياسية الأولى للمحادثات هي اتفاق لوقف تدفق اللاجئين من سورية. وأعلنت الحكومة مؤخراً أنه – باستثناء اللاجئين السوريين المسجلين حالياً في البلاد – فإن الوافدين الجدد من سورية سيكون عليهم التقدم بطلب للحصول على تأشيرات قبل السعي للدخول. وقوبل هذا القرار بتوبيخ قاس من السفير السوري في لبنان علي عبدالكريم علي، إلا أن «حزب الله» يشعر بالقلق على نحو متزايد في شأن تدفق اللاجئين – السنّة – أساساً إلى لبنان، ويشعر تيار «المستقبل» أيضاً بالقلق من أن هذا التدفق قد يجلب العناصر المتطرفة التي من شأنها تهديد قيادته المعتدلة وزعزعة الاستقرار.
في مجال الأمن، مازال الجيش يقوم بدور بارز وناجح إجمالاً في مواجهة العديد من التحديات الناجمة عن الصراع في سورية. فقد تمكن من التعامل مع اندلاع أحداث أمنية في طرابلس وعكار، وحقق بعض التقدم في مواجهة التحدي الأمني في بلدة عرسال في البقاع الشمالي. وسيطر على طرق العبور الرئيسية المحيطة بالبلدة، وأقام نقاط مراقبة ومواقع عسكرية لحماية الحدود السورية اللبنانية. ومع ذلك، فإن الوضع في عرسال لا يزال غير مستقر، ولا يزال مقاتلو «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش» يمثلون تهديداً كبيراً في المرتفعات العالية على طول الحدود الجبلية بين سورية ولبنان والتي تمتد من حوالى القصير في الشمال، وصولاً إلى منطقة مرتفعات الجولان. ويتطلع الجيش إلى تعزيز قدراته من خلال صفقة تسليح بثلاثة بلايين دولار مع فرنسا، بتمويل من السعودية، ومن شأن الصفقة أن تدعم قدراته الجوية والبحرية المتواضعة حالياً.
وعلى الصعيد الاقتصادي، حافظ الاقتصاد اللبناني على استقرار العملة وانخفاض معدلات التضخم وأسعار الفائدة وتمكن من تجنب الانكماش وتحقيق نمو متواضع بنحو 1.5 في المئة عام 2014، ويتوقع أن يصل إلى 2.4 في المئة عام 2015. وتتمثل المهمة الرئيسية للحكومة في التحرك استراتيجياً إلى الأمام في شأن قضية الغاز عن طريق تمرير القرارات المتأخر إصدارها والمضي قدماً في المناقصات والتعاقد مع شركات دولية لبدء الحفر والاستخراج.
بين عامي 2011 و2014، بدا لبنان حابساً أنفاسه ومتسائلاً عما إذا كان سيبقى على قيد الحياة مع تفكك سورية المجاورة. ولكن مع انطلاق 2015 على لبنان أن يتسلح بمزيد من الثقة في مقومات صموده ويمضي قدماً في معالجة المسائل السياسية والأمنية والاقتصادية الرئيسية التي تعيق انتقاله من حالة الصمود الجامد إلى إعادة تحريك عجلة العمل السياسي والأمني والاقتصادي.
* كاتب لبناني ونائب رئيس معهد الشرق الأوسط في واشنطن.