IMLebanon

لبنان في 2022: سباق نحو القمّة… وآخر نحو القعر!

 

ألقاب وإبداعات وهشاشة واكتئاب

 

غير مأسوف عليها تلفظ 2022 أنفاسها. هي في ذلك مثلها مثل سابقاتها. وهذا موضع إجماع بالمبدأ. لكن في لبنان، أرض التناقضات ومصنعها ومصدّرها، المفاجآت لا تنضب. فأن يحتلّ بلد محمّل بكمّ هائل من المآسي صدارة ترتيب الإنفاق على احتفالات عيد الميلاد لهذا العام – بحسب إحصاءات شركة World Remit – أمر مذهل فعلاً. نترك التفسير العلمي (والمنطقي؟) لأهل الاختصاص لنبحر في فضاء التناقضات تلك. وهذه جردة سريعة لما تحقّق في 2022 على طرفي نقيض “الإنجازات اللبنانية”.

البداية، إحماءً، رياضية – وما أحوجنا إلى الكثير من روحها – مع كرة السلة. فقد حصد المنتخب اللبناني للرجال، للمرة الأولى في تاريخه، لقب النسخة الرابعة والعشرين من بطولة العرب التي أقيمت في دبي، كما تأهّل إلى بطولة كأس العالم 2023 للمرة الرابعة في تاريخه. منتخبات الفئات العمرية أبلت أيضاً البلاء الحسن في حين أصبح منتخب الصمّ للعبة المنتخب الأوّل عربياً الذي ينضمّ إلى اتّحادها العالمي. وفي الكرة الطائرة، حقّق منتخب السيّدات إنجازاً محرزاً لقب بطولة غرب آسيا بنسختها الأولى. أما في الرياضات الفردية، فنال السبّاح اللبناني كولين شرتوني (13 عاماً) ستّ ميداليات، إحداها ذهبية، ضمن سباقات “ابيكس” للسباحة التنافسية في دبي. في حين احتلّ كاي حناش، ابن التسع سنوات المقيم في بريطانيا، المركز الأوّل في بطولة متخصّصة في الشطرنج هناك لفئة اللاعبين ما دون 11 عاماً، والمركز الثالث لفئة ما دون الـ12 عاماً.

 

تفوّق ذهني

 

إلى العلوم. فقد حصل الباحث اللبناني في الفيزياء النوويّة والذريّة وخرّيج جامعة اللويزة، الياس عايدي، على منحة زمالة ما بعد الدكتوراه في NASA Hubble لمتابعة أبحاثه في الوكالة. كذلك فاز الشاب اللبناني محمد نزيه المير بالمرتبة الثالثة في بطولة العالم للحساب الذهني التي جرت في ألمانيا والتي شارك فيها 35 متبارياً من مختلف الدول. من ناحيتهما، أحرز الطفلان عماد سعادة وأوليفر فادي منصور المركز الأوّل في جولتين مختلفتين من مسابقة Caribou Cup الكندية – الدولية للاختبارات التفاعلية في الرياضيات، متفوّقين على أكثر من 17 ألف طالب وطالبة. أما الشقيقان اللبنانيان، باسم وقاسم بزون، ففازا بجائزة من شركة “ميتا” قيمتها 60 ألف دولار، لاكتشافهما ثغرات أمنية تهدّد بيانات مستخدمي “فيسبوك”. ماذا بعد؟ الطالب توما أبي نصر – ابن بلدة كفرحباب – حصد المرتبة الأولى في امتحانات البكالوريا الفرنسية في جنوب غرب فرنسا ليُمنح وسام شرف وزارة التربية هناك. أما البروفيسور اللبناني – الفرنسي، ألان الآيي، فحصل على براءة اختراع لابتكاره تقنية جديدة صديقة للبيئة لتحلية مياه البحر بأقل تكلفة مادية.

 

طب وثقافة

 

نتابع. فالطبيب اللبناني (البقاعي) إيلي نجم النجار، الجرّاح في أحد مستشفيات بريطانيا، حقّق إنجازاً عالميّاً عبر فرض بحثه كواحد من أهم ستة أبحاث لأطباء عالميّين خلال المؤتمر السنوي الذي تنظّمه مؤسسة “NASS” الأميركية. أما ابن بلدة جون الشوفية المتخصّص في جراحة النساء والولادة، الطبيب وسيم روفايل، فنجح في استئصال ورم حميد من مبيض طفلة في التاسعة من العمر، في جراحة معقّدة في أحد مستشفيات السعودية باستخدام تقنيات المنظار المتطوّر دون القيام بفتح البطن.

 

ثقافياً، أصبح لبنان الدولة العضو الـ36 في الاتفاقية الجزئية الموسّعة للطرق الثقافية من أجل المسارات الثقافية، كأوّل بلد أورو- متوسطي في الشرق الأوسط ينضم إلى الاتفاقية التابعة لمجلس أوروبا. بدورها، صُنّفت الجامعة الأميركية الأولى في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من بين أفضل 140 جامعة في العالم وفق تصنيف وكالة كواكاريلي سيموندز من حيث الاستدامة. كذلك حصدت جامعة القديس يوسف اعترافاً دولياً جديداً من خلال تصنيفها في المرتبة 16 ضمن أفضل 100 جامعة في العالم ذات تأثير حقيقي في إدارة الأزمات وفق تصنيف WURI الجامعي العالمي. وكانت للجامعة اللبنانية حصّتها لناحية التصنيفات ذات الصلة بالسمعة المهنية.

إلى شيء من النظام. فقد عُيّن ابن بلدة بكفيا فادي داغر رئيساً لجهاز شرطة بلدية مونتريال الكندية بوصفه “الأكثر كفاءة” في مقاطعة كيبيك. أما ابن عكار، فريد الأشقر، فطرق أبواب موسوعة “غينيس” صانعاً أطول مسبحة في العالم بوزن 17 كيلو و328 غراماً وبعدد حبّات بلغ المئة وحبة. والأرجح، جماعياً، أن اللبناني قد يدخل الموسوعة قريباً كصاحب “أطول بال” بين الشعوب قاطبة.

 

وتألّق “لطيف”

 

لمرضى الكلى خبر سار. فقد حقّقت الباحثة في علم السموم، د. مروة الزين، اختراعاً بالتعاون مع المهندس الميكانيكي سامي داغر، عبارة عن فلتر حيوي يقوم بثلاث وظائف من أصل 4 في الكلية الطبيعية دون التسبّب بتجلّط الدم. كما فازت الدكتورة لينا قاروط بجائزة هارفرد عن الذكاء الاصطناعي. ومن ناحيتها، مثّلت بشرى الموسوي، الطالبة في الجامعة اللبنانية، لبنان في قمة السلام العالمي التي نظمتها”Global Peace Chain” في دبي مقدّمة فكرة مشاريع حلول لمشكلة التغيّر المناخي ومقترحات لتحسين التعليم العالي في الشرق الأوسط.

 

وثمة المزيد. فقد وصلت اللبنانية نيللي عطار، كأوّل امرأة عربية، إلى أعلى قمة K2 – ثاني أعلى قمم العالم بعد إيفرست على ارتفاع 8611 متراً عن سطح البحر. والإبداع النسائي تكلّل مع أعضاء فرقة “مياس” اللواتي فزن بلقب “أميركا غوت تالنت” بعد تقديمهنّ مجموعة عروض أبهرت العالم.

 

هذا جميل ومشجّع و”يكبّر القلب”. لكن ألم نقل إننا بلد التناقضات؟ فاحتلال لبنان، مثلاً، المركز 27 من بين الدول الـ120 الأكثر هشاشة – أحد مؤشرات قياس الدول الفاشلة الصادر عن صندوق السلام ومجلة فورين بوليسي – عالمياً يعيدنا إلى أرض الواقع. وما أكثر المؤشرات!

 

أوّل الغيث مؤشر مدركات الفساد الصادر عن منظمة الشفافية الدولية لسنة 2022. فقد حقّق لبنان تراجعاً إلى أدنى المستويات التاريخية بمعدّل 24، حيث إن الصفر يشير إلى “فاسد للغاية” و100 إلى “نزيه للغاية”… وعلى سلّم “المؤشر الدولي لسيادة القانون”، احتللنا المركز الأخير. ثم نأتي إلى تقرير مركز V-Dem السويدي السنوي حول مؤشر الديمقراطية الذي لحظ تراجع تصنيف لبنان إلى أوتوقراطية انتخابية – أي، تعريفاً، نظام حكم تكون فيه لشخص معيّن سلطة مطلقة على شؤون الدولة. عدد أصحاب تلك السلطة يرتفع لدينا إلى عدد أصابع اليدين – لِنَقُل أوتوقراطية انتخابية برؤوس متعدّدة. فمن بين 202 دولة مشمولة بالتقرير، حلّ بلد الأرز في المرتبة 103 في مؤشر الديمقراطيات الليبرالية و99 في مؤشر الديمقراطيات الانتخابية و116 في مؤشر عنصر المساواة.

 

صورة لا لبس فيها عن واقع مرير كيفما قلّبناه. والأرقام الاقتصادية تزيد الصورة رسوخاً. فبحسب أحد تقارير البنك الدولي، جاء لبنان الأوّل عالمياً بين الدول العشر الأكثر تأثّراً بالتضخم وارتفاع الأسعار، متقدّماً على زيمبابوي وفنزويلا. على سبيل المثال أسعار الغذاء التي شهدت تضخّماً بواقع 240%. كيف لا و”السقوط الحر” لقيمة الليرة بلغ 145% خلال الأشهر العشرة الأولى من العام، بحسب التقديرات الواردة في تقرير عدد خريف 2022 لمرصد الاقتصاد اللبناني للبنك الدولي. أما “هيومن رايتس ووتش”، فأشارت في تقرير حديث إلى عجز غالبية اللبنانيين عن تأمين حقوقهم الاجتماعية والاقتصادية ملقياً الضوء على المستويات “المقلقة” للفقر وانعدام الأمن الغذائي بسبب تراجع النشاط الاقتصادي وعدم الاستقرار في ما يعزز انعدام المساواة الاجتماعية والاقتصادية.

 

… ومشاعر أيضاً

 

فماذا عن الحالة النفسيّة للشعب اللبناني والمعطيات كذلك؟ في تقرير السعادة السنوي الصادر بإشراف الأمم المتحدة، حلّ لبنان في المركز ما قبل الأخير مدجّجاً برزمة أزمات اقتصادية، مالية، اجتماعية وأمنية. وخلصت دراسة أعدّها باحثون من كليّتي العلوم الصحية والطب في الجامعة الأميركية في بيروت إلى ارتفاع نسب الإصابة بالاضطرابات النفسيّة لدى الأطفال والمراهقين. بالأرقام: سجّل الاكتئاب نسبة 30%، والقلق 65%، واضطرابات ما بعد الصدمة نسبة 52%.

 

ليس هذا وحسب. ففي تقرير نشرته شركة الأبحاث العالمية (غالوب) في حزيران حول العواطف العالمية، المختص بقياس العواطف ومن ضمنها مستويات الغضب، ظهر أن 49% من المستطلعين في لبنان عانوا الغضب في اليوم السابق للاستطلاع، وهو أعلى معدّل مسجّل في أي مكان في العالم. وفي تقرير آخر لـ”غالوب”، جاء ترتيب الدول العشر الأكثر تعرّضاً للمشاعر السلبية على النحو التالي: أفغانستان، لبنان، العراق، سيراليون، الأردن، تركيا، بنغلاديش، الإكوادور، غينيا وبنين. المشاعر السلبية تلك تتضمّن القلق، الألم الجسدي، الحزن والغضب. أعراض لبنانية بامتياز.

 

الصحافة والطفولة… ضحيّتان

 

الحلول في المرتبة 107 عالمياً العام الماضي في أحد التصنيفات كان بالنسبة لكثيرين أسوأ الممكن. الجواب: مزيد من التقهقر في 2022. لا نتحدث هنا عن مؤشرات التلوّث أو الأمراض التي عصفت باللبنانيين كاليرقان والكوليرا، ولا حتى مؤشرات تفلّت الوضع الأمني وازدهار “بيزنس” الخطف. الضحية، للأسف، هي الصحافة وحريّتها. فبحسب تقرير منظمة “مراسلون بلا حدود” حول “التصنيف العالمي لحرية الصحافة للعام 2022″، جاء لبنان في المرتبة 130 من بين 180 دولة. والتقرير، للعلم، يعتمد على عوامل خمسة: السياق السياسي للدولة، الإطار القانوني لعمل الصحفيين، السياق الاقتصادي، السياق الاجتماعي والثقافي، والأمان المتاح للصحفيين في عملهم. ومتى عُرف السبب، بَطُل العجب.

 

حال حقوق الأطفال ليست أفضل بكثير. فتقرير صندوق الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) أورد أن 94% من أطفال لبنان لا يتلقّون التغذية التي يحتاجونها، بينما يعاني أكثر من 40% من النساء والأطفال دون سنّ الخامسة من حالات فقر الدم. وحذّر تقرير لمعهد التمويل الدولي من سلوك لبنان “السيناريو المتشائم” في ظل غياب تطبيق الإصلاحات وإلغاء الاتفاق مع صندوق النقد الدولي. الأمر الذي سيؤدّي، بالمحصّلة، إلى استنزاف إضافي لاحتياطات مصرف لبنان وارتفاع نسبة الدين إلى ما يفوق 200% من الناتج المحلي. ويتحدّث هذا السيناريو – بما يشبه النبوءة التي تحقّق نفسها بنفسها – عن مزيد من التدهور في سعر صرف الليرة مقابل الدولار إلى 40 ألف ليرة مع نهاية العام الحالي وإلى 110 آلاف ليرة مع نهاية عام 2026. العملة الخضراء اليوم على أعتاب الـ50 ألف ليرة. والتشاؤم يزداد تشاؤماً…

 

وأخيراً، انتخبنا نوّاباً بداعي التغيير والتغيير لم يأتِ. ولا هُم برئيس أو حكومة أتوا… بعد. لكن محكومين بالأمل والتناقضات نبقى. فإعلان تطويب الأبوين الكبّوشيين كان علامة مضيئة من الأعالي. وفي ترسيم الحدود البحرية و(قرب؟) استخراج الغاز من يتوسّم خيراً. اتّكلوا على السماء إذاً… وعلى قعر البحر. وإلى 2023 در.