في افتتاح مؤتمر بروكسيل لدعم اللاجئين السوريين اليوم، سيكتشف العالم مجدّدا انّ هناك وجهين للبنان. وجه مرتبط بثقافة الحياة وآخر بثقافة الموت. هناك وجه من يعمل من اجل تحصين البلد وتمكينه من تجاوز مرحلة في غاية الصعوبة والتعقيد يمرّ فيها المشرق العربي كلّه. وهناك وجه من يريد تقويض مؤسسات الدولة اللبنانية. يحصل ذلك ان عبر التورط أكثر فأكثر في الحرب التي يشنّها النظام السوري على شعبه، وانّ عبر العودة الى الامن الذاتي تمارسه ميليشيا مذهبية بحجة مكافحة المخدرات في احدى المناطق اللبنانية. في الضاحية الجنوبية لبيروت تحديدا.
ليست مشاركة لبنان في مؤتمر بروكسيل، المخصص لمساعدة اللاجئين السوريين الى دول الجوار، سوى مساهمة في تحصين الوضع في البلد. ليست المشاركة مجرّد حضور لبناني بوفد برئاسة رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري، بل هي مشاركة من نوع جديد بطريقة مختلفة.
اقلّ ما يمكن قوله عن هذه الطريقة انّها ذات طابع علمي ترتقي الى مستوى المطلوب من الدول التي تحترم نفسها عندما تذهب الى مثل هذا النوع من المؤتمرات. تقوم هذه الطريقة على تحديد ما الذي يريده لبنان استنادا الى لغة الأرقام وعلى كيفية الاستفادة من مؤتمر بروكسيل من اجل تمكين البنية التحتية من استيعاب مليون ونصف مليون لاجئ سوري. سيطلب لبنان ما بين عشرة واثني عشرة مليار دولار لتطوير بنيته التحتية. ستوفّر عملية التطوير هذه مئة الف فرصة عمل في ثلاث سنوات، كما ستساهم في زيادة حجم الاقتصاد اللبناني. هذا يعني ان المبلغ الذي سيستفيد منه لبنان يفوق، من الناحية العملية، ما سيحصل عليه بكثير، نظرا الى ان أي مساعدة للبنان هي بمثابة استثمار في اقتصاده وفي الاستقرار الإقليمي.
الأكيد ان الهدف ليس توطين هؤلاء السوريين في لبنان، بل مساعدة هؤلاء على ان يكونوا جاهزين للعودة الى سوريا. هناك فرصة يوفّرها مؤتمر بروكسيل الذي اعدّت له الحكومة اللبنانية جيدا من اجل تحويل المصيبة التي تسببت بها عملية تهجير السوريين من ارضهم الى فرصة. يمكن للمساعدات الدولية التي سيحصل عليها لبنان المساهمة في تطوير البنية التحتية اللبنانية، أي تحصين البلد من جهة وخلق فرص عمل للشركات اللبنانية وإيجاد فرص عمل للبنانيين وللسوريين من جهة أخرى. وهذا يخدم الاقتصاد اللبناني. ثمّة من سيشكو من توفير فرص عمل للسوريين. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هل كان ممكنا بناء شيء في لبنان لولا العمالة السورية؟ الاهمّ من ذلك بكثير انّ فرص العمل توفّر املا للشباب السوري واللبناني وتصرفه عن الذهاب الى التطرّف والإرهاب بكلّ انواعهما… بما في ذلك الموت من اجل بشّار الأسد!
يمكن الرهان على مؤتمر بروكسيل لانّ لبنان حمل ملفا مدروسا بأدق التفاصيل بعيدا عن أي شكل من اشكال العنصرية في حقّ اللاجئين السوريين. عملت هذا الملفّ مجموعة من خيرة الشابات والشباب العاملين مع سعد الحريري مباشرة او في دوائر تابعة للمؤسسات الرسمية اللبنانية. سيقول لبنان صراحة ان ثمّة حدودا لقدرته على التحمّل. هناك على سبيل المثال أزمة كهرباء في لبنان. ما العمل عندما تزداد الحاجة الى الطاقة الكهربائية مع وجود مليون ونصف مليون سوري في البلد؟ ما العمل أيضا عندما يتوجّب على المدارس الرسمية اللبنانية استيعاب مئتين وثلاثين الف طالب سوري، أي ما يفوق عدد الطلاب اللبنانيين في هذه المدارس؟ هذا غيض من فيض الضغوط التي يتعرّض لها لبنان الذي كان مفترضا ان يبقى في منأى عن الحرب على الشعب السوري بدل ان يشارك فيها «حزب الله» خدمة لمآرب ذات طابع مذهبي ضيّق لا علاقة للمصلحة الوطنية اللبنانية بها من قريب او بعيد.
لن يترك لبنان فرصة مؤتمر بروكسيل تمرّ، خصوصا انّه في اقتصادية عميقة. من بين أسباب الازمة المشروع التوسّعي الايراني الذي يقوم على نشر الفقر والبؤس والتعصّب المذهبي في كلّ انحاء العالم العربي عن طريق الميليشيات المذهبية. يترافق ذلك مع السعي الى قطع العلاقات بين لبنان ومحيطه العربي، خصوصا اهل الخليج. ليس سرّا ان المشروع التوسّعي الايراني يلعب دوره في إيجاد حاضنة للارهاب الذي يمثّله «داعش» واخوته في كلّ انحاء المنطقة، خصوصا اذا نظرنا مليّا الى ما يدور في العراق عموما وما تتعرّض له الموصل هذه الايّام تحديدا.
من المفيد التذكير بانّ سعد الحريري زار السعودية بعد انتهاء القمّة العربية. ذهب الى الرياض برفقة الملك سلمان بن عبد العزيز وفي الطائرة الخاصة بالعاهل السعودي، وعاد الى بيروت في طائرة أخرى وضعها الملك في تصرّفه. عكست الزيارة «الملكية» الحرص السعودي على لبنان ودعم الرياض لخيارات رئيس مجلس الوزراء اللبناني الذي عمل على انتخاب رئيس للجمهورية في وقت كان هناك من يسعى الى ان يكون خيار الفراغ في الرئاسة هو الخيار الوحيد المتاح امام لبنان.
ليس سرّا انّ المملكة تريد مساعدة لبنان… لكنّ على لبنان ان يساعد نفسه اوّلا. هذا ما سعى لبنان الى اثباته عبر مؤتمر بروكسيل الذي يمثّل بالنسبة اليه فرصة لا تعوّض. العالم تغيّر، كذلك المملكة العربية السعودية ودول الخليج. من يريد ان يساعده الآخرون، عليه ان يثبت انّه يستحق المساعدة وان يكون اهلا لهذه المساعدة بدل ان يردّ عليها، كما يفعل «حزب الله» بالتنكّر لاهل الخليج الذين دعموا لبنان وأبناء شعبه على الدوام، من دون تمييز بين مذهب ومذهب وطائفة وأخرى، ومن دون ان يطلبوا شيئا في المقابل…
ايّ لبنان يريد اللبنانيون. مرّة أخرى، الخيار واضح بين ثقافة الحياة وثقافة الموت. بين مواجهة تحدي اللجوء السوري الكثيف اليه وبين ان يتحوّل اللبنانيون لاجئين في بلدهم تحت رحمة «المال النظيف» الذي قد يأتي او قد لا يأتي، لكنّ هدفه، ان أتى او لم يأت، واحد. هدفه نقل تجربة الضاحية الى بيروت نفسها كي تعمّ كلّ البلد في مرحلة ما…