Site icon IMLebanon

لبنان في شرق أوسط متفجّر

 

منذ أن بدأت جريمة تهجير مسيحيي العراق ارتسمت أمامي علامات استفهام من خارج السياق المباشر للمأساة.

تساءلت مثلاً: لو لم يصنع الأكراد، خلافاً لإرادة الحكومة المركزية في بغداد، اقليماً يتمتع بالاستقلال الذاتي.. الى اين كان المهجرون المسيحيون والأزيديون سيلجأون؟ وأي مصير كان يمكن أن يلاقوه لو تمكنت حركة داعش من الاستفراد بهم؟.

وتساءلت أيضاً: لو لم يكن هناك لبنان، من اي منبر كان المسيحيون المشرقيون سيطلقون صرخة الألم والاستغاثة؟ أين كان بطاركة الشرق سيجتمعون ليعلنوا موقفهم الموحد مما جرى ويجري؟. وأي دولة عربية كانت ستتبنى قضيتهم الوطنية والانسانية والدينية العادلة؟ ومن كان سيحملها غير لبنان الى المراجع الدولية؟.

تجرأ علي سؤال ملحّ في اتجاه آخر: لو أن اللبنانيين كانوا في مستوى لبنان الرسالة، ولو أنهم كانوا على درجة من المسؤولية وحملوا هذه الرسالة الى المحيط العربي كما دعتهم الى ذلك وثيقة الارشاد الرسولي -رجاء جديد للبنان-، هل كانت وقعت الواقعة؟ أي لو أن اللبنانيين التزموا بصيغة العيش المشترك بكل ما يتطلبه هذا الالتزام من احترام للاختلاف والتعدد ومن احترام للحريات العامة والخاصة، ومن تكريس ذلك في سلوك وعمل المؤسسات الدستورية والسياسية.. ولو انهم شجعوا المجتمعات العربية الأخرى على الاقتداء بهذا السلوك، أما كانت هذه المجتمعات الشقيقة وفرت على نفسها، وعلينا، المحنة التي تُغرقنا جميعاً اليوم في وحولها؟. أما كان أهلنا المسيحيون وسواهم من المواطنين من أديان ومذاهب مختلفة، قد وفروا على أنفسهم وعلينا المأساة- المعاناة التي لا سابق لها في تاريخ المنطقة؟

كذلك تجرأ عليّ سؤال أكثر إلحاحاً وفيه شيء من النقد الذاتي:

هل نتحمل نحن في لبنان جزءاً من مسؤولية سوء ما يجري في المنطقة العربية؟ هل يصح فينا القول اذا عطست الصيغة اللبنانية تصاب المنطقة العربية كلها بالرشح؟. وانه اذا تعافت الصيغة اللبنانية واشتد عودها، فان المنطقة العربية كلها تنعم بالصحة والعافية والوحدة الوطنية؟. 

قد يكون في هذا السؤال شيء من النرجسية اللبنانية، ولكن منذ أكثر من عامين، وقبل أن تكشّر داعش عن أنيابها الارهابية، نشرتُ رسالة اعتذار الى روح البابا القديس يوحنا بولس الثاني قلت فيها:

« عذراً قداسة البابا.. نعرف انك كنت تؤمن بأن من أسس المحافظة على حضور وعلى دور مسيحيي الشرق، هو تعريب اللبننة بمعناها التعايشي الانساني والحضاري. وأنك كنت تعتمد علينا نحن اللبنانيين للارتفاع بالعيش المشترك الى مستوى العيش الواحد. الا اننا خذلناك. وخذلنا أنفسنا. فلم نرتفع الى العيش الواحد.. ولا حافظنا على العيش المشترك.. بل ألقينا أنفسنا ومستقبل لبناننا ومستقبل المنطقة العربية كلها في اتون التفتت المذهبي والطائفي «.

وقلت في رسالة الاعتذار أيضاً:

« عذراً قداسة البابا.. كنا نتباهى بأن بيروت هي العاصمة العربية الوحيدة بل المدينة العربية الوحيدة التي يرتفع فيها تمثال لبابا.. وان تكون أنت صاحب هذا التمثال.. إلا أننا اليوم نخجل أمام صاحب هذا التمثال لأننا نطعن صاحبه في ظهره.. وفي قلبه«.

ولكن ماذا ينفع الاعتذار إذا لم يفتح الباب أمام نقد ذاتي يصحح السلوك العام بما يمكّن هذا التصحيح من أن يعكس ذاته على المجتمعات العربية الشقيقة؟

هذا التساؤل فرض عليّ سؤالاً فيه الكثير من الألم. وهو: هل يشكل التقصير اللبناني في حمل رسالة العيش المشترك الى الجوار العربي، مشاركة -ولو غير مباشرة- في تحمّل مسؤولية ما يحدث اليوم في هذا الجوار؟ أدرك ان في هذا السؤال شيئاً من جلد الذات، ولكن ألم يقصّر اللبنانيون في اداء دورهم لدرء الخطر عن اخوان لهم، ولدرئه تالياً عن أنفسهم أيضاً؟.

لا أدعي انني أملك أجوبة. كل ما أملكه هو المزيد من هذه الأسئلة التي تتوالى عليّ كالسياط. كل سوط يترك بصمة عميقة تنزف دماً ودمعاً.

بماذا أجيب مسيحيي الشرق الذين يتطلعون الى صيغة لبنان كمثل أعلى، عندما يتساءلون: لماذا الدولة اللبنانية بلا رئيس؟. وأي مستقبل للبنان في ظل هذا الوضع؟.

وبماذا أجيبهم عندما يرتفع صوت نشاز من هنا أو من هناك يشوّه صورة الجيش الوطني ودوره؟ اذا كان ثمة من يطعن في اخلاص جيشه !.

في شباط 1982 نشرت مجلة «كيغونيم» الاسرائيلية دراسة تحت عنوان «استراتيجية اسرائيل في الثمانينات»، جاء فيها:

« ان صورة الوضع (القومي الاثني الطائفي) من المغرب حتى الهند ومن الصومال حتى تركيا تشهد على انعدام الاستقرار وعلى التفتت السريع في جميع انحاء المنطقة المحيطة بنا. وعندما نضيف الى ذلك الصورة الاقتصادية، فإننا ندرك الى اي حد تقوم المنطقة بأسرها فعلاً على برج من ورق، من دون أي فرص للتصدي لمشكلاتها الخطرة «.

وتقول الدراسة الصهيونية:« ان مصر مفككة ومنقسمة الى عناصر سلطوية كثيرة، (وليس على غرار ما هي الحال اليوم)، لا تشكل أي تهديد لإسرائيل وانما ضمانة للأمن والسلام لوقت طويل. وهذا اليوم في متناول يدنا. ان دولاً مثل ليبيا والسودان والدول الأبعد منهما، لن تبقى على صورتها الحالية بل ستقتفي أثر مصر في انهيارها وتفتتها، فمتى تفتت مصر تفتت الباقون، إن رؤية دولة قبطية مسيحية في صعيد مصر (الى جانب عدد من الدول) ذات سلطة أقلية مصرية لا سلطة مركزية كما في الوضع حتى الأن، هي مفتاح هذا التطور التاريخي الذي أخرته معاهدة السلام.

ذلك أن تفتت لبنان بصورة مطلقة الى خمس مقاطعات اقليمية هو سابقة للعالم العربي بأسره، بما في ذلك مصر وسوريا والعراق وشبه الجزيرة العربية، اذ أخذ ينحو منحى مشابهاً منذ اليوم. إن تفتت سوريا والعراق لاحقاً الى مناطق ذات خصوصية اثنية ودينية واحدة على غرار لبنان، هو هدف من الدرجة الأولى بالنسبة الى اسرائيل في الجبهة الشرقية في المدى البعيد. اذ إن تشتيت القوة العسكرية لهذه الدول هو اليوم الهدف المرسوم في المدى القصير، وسوف تتفتت سوريا وفق التركيب الاثني والطائفي الى عدة دول مثل لبنان حالياً، بحيث تقوم على ساحلها دولة علوية شيعية، وفي منطقة حلب دولة سنية، وفي منطقة دمشق دولة سنية أخرى معادية للدولة الشمالية، والدروز سيشكلون دولة، ربما أيضاً في الجولان عندنا، وطبعاً في حوران وشمال الأردن، وستكون هذه ضمانة الأمن والسلام في المنطقة باسرها في المدى الطويل، وهذا الأمر في متناول يدنا منذ اليوم « .

اذا كان هذا هو المشروع الاسرائيلي لتفتيت المنطقة العربية، فهل هناك مشروع انقاذي أفضل من مشروع الصيغة اللبنانية للمحافظة على أمن وسلامة واستقرار هذه المنطقة؟

من المؤسف اننا نتفرج على المراحل التنفيذية للمشروع الاسرائيلي بعيون مفتوحة وكأننا أصبحنا من حيث نريد أو لا نريد جزءاً منه. ونغمض عيوننا على عثرات مشروع الصيغة اللبنانية وكأنه لا يعنينا من قريب أو بعيد.

ان كل مجتمع متعدد مفتوح دائماً على الاختلافات، ولذلك فهو يحتاج الى آلية وطنية مشتركة تعتمد أساساً لحل أي خلاف ولمعالجة أي سوء تفاهم، في اطار الدستور والقوانين والأعراف الوطنية. ويشكل الحوار أساس هذه الآلية والمرجع الصالح لقطع الطريق أمام أي لجوء الى العنف او الى الاستقواء به.

والقاعدة التحكيمية التي يحسن اعتمادها في ادارة مجتمع متعدد هي القاعدة الشافعية (الإمام الشافعي) التي تقول: «رأيي صحيح يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب». ان أي مكون من مكونات هذا المجتمع لا يملك حق احتكار الصواب في موقفه أو في رأيه، ولا يملك حق اختصار المصلحة العامة في مصلحته الخاصة .

من هنا أهمية ثقافة الانفتاح على الرأي المختلف واحترامه، وعلى تكامل المصالح واحترامها . ومن هنا أيضاً فان المدخل السليم الى ذلك هو الحوار من حيث انه البحث عن الحقيقة المشتركة وعن المصلحة المشتركة مع الآخر ومن خلاله.

ان الانتصار الذي يفرضه العنف الطائفي هو انتصار وهمي. والانتصار الوهمي هو أسوأ أنواع الهزائم. لأنه لا بد ان ينقلب هذا الانتصار على أصحابه. ولا بد أن يرتد وبالاً كبيراً على الوطن كله عاجلاً أو آجلاً. اما الانتصار الحقيقي فهو الذي يتم تحقيقه بالحوار الحر والمتكافئ القائم على الثقة المتبادلة. انه الانتصار الذي يبنى على المشاركة في صناعة الوفاق والتفاهم والذي يحقق تالياً السلام والازدهار والوحدة الوطنية.