Site icon IMLebanon

لبنان امام جمهورية المجهول والمحظور

واشنطن أرسلت سايروس فانس الى بيروت للتوطين 

لبنان امام جمهورية المجهول والمحظور 

وسركيس مهّد لوصول بشير للرئاسة الجمهورية تبدو في حالة بلبلة وضياع في ظل الصراع على مستقبلها والمصير. هل يبقى الصراع وقفا على المنافسات السياسية، بين المرشحين الكبار، وفي مقدمهم الرئىس العماد ميشال عون، الوزير السابق النائب سليمان فرنجيه والنائب هنري حلو ام يطوى الموضوع، ليطرح اسم الرئىس امين الجميل الذي وصل الى الرئاسة الاولى، بعد استشهاد شقيقه الرئىس بشير الجميل في العام ١٩٨٢؟ 

في غضون ذلك، لا احد ينكر وجود مرشحين بارزين كالوزير بطرس حرب، والنائب روبير غانم والسفير لدى الكرسي الرسولي جورج خوري ورئىس المجلس العام الماروني الوزير السابق وديع الخازن الذي سافر مطلع الاسبوع الى الفاتيكان، ليشحذ حماسة اصدقائه في روما لطرح اسمه بقوة، ام ان الامور تدور لترسو على اسم الوزير السابق جان عبيد حامل اختام رئىس البرلمان نبيه بري في السر تارة وفي العلن دائما. 

هل اصبحت البلاد امام جمهورية المجهول، ام جمهورية المعلوم، في غياهب المحظور على الوضوح. 

حاول الرئىس امين الجميل، ان ينشئ جمهورية على الطراز الاميركي في العام ١٩٨٢، فجعل السيد وديع حداد مستشارا خاصا للامن القومي، والدكتور عبدالله ابو حبيب احد ابرز اللبنانيين في البنك الدولي سفيرا له في واشنطن، واراد رئىسا للحكومة جديدا، لكن بروز اسم شفيق الوزان رئيس المجلس الاسلامي فرض نفسه عليه خلال تمرسه برئاسة الحكومة، في عهد الرئىس الياس سركيس.

اختار الرئىس امين الجميل حكومة من واقع الحال لا من طموحاته والاحلام. وجعل من النقباء المعروفين في المهن الحرة وزراء، وعرض وزارة الاعلام على نقيب المحامين السابق روجيه شيخاني، وعلى نقيب المحامين بعده عصام خوري وزارتي التربية والدفاع، وعلى محام صديق للرئىس كامل الاسعد وللسيد كاظم الخليل ابراهيم حلاوي حقيبة اساسية، لكنه، استهل عهده بتهديد مباشر لسوريا، وهدد بقصف الشام وانهاه بخطاب في الجمعية العامة للامم المتحدة ينطوي على رغبة بفتح باب الحوار مع دمشق. بناء على نصيحة بعض مستشاريه. 

الا ان بيروت سقطت في يد المعارضة في ٦ شباط عندما تحالف نبيه بري ووليد جنبلاط، يومئذ كان وزير الاعلام روجيه شيخاني مع زوجته في وزارة الاعلام، ونام موظفو الوزارة في بيت العميد ريمون اده، وفي اليوم التالي اشرف بري على عودتهم الى المنطقة الشرقية. 

هل كان قدر لبنان، وجود قادة في موقع الرئاسة يجلسون فيه ولا يحكمون؟ 

وبقول الكاتب انطوان فرنسيس، ان ثمة موقفا جماهيريا اتخذه الرئىس سليمان فرنجيه الذي وضعته الاقدار في موقع لا يحسد عليه، فقد كان اشبه بشخصية ميتولوجية تواجه القدر فردد: تكون البلاد او لا تكون… ويتابع: 

قلة قليلة من الاجيال الشابة التي ولدت، تعرف حقيقة الموقف، ومدى هشاشة الوضع، عندما تساقطت القذائف على القصر الجمهوري في بعبدا خلال شهر نيسان ١٩٧٦، فاضطر الى قبول عرض الرئىس السوري حافظ الاسد لكبح جماح التسلط الفلسطيني على السلطة. 

ويقول الكاتب ان السوريين اختاروا الرئيس الياس سركيس حاكم مصر لبنان لينتخب رئىسا للجمهورية بموافقة الجبهة اللبنانية وتسلم الحكم في ٢٣ ايار. فكان الرئيس الجديد يشهد ابشع مراحل الحرب واخطرها، في ذلك الوقت انتقل الرئىس سركيس من مقر اقامته في فندق الكارلتون الى منزله في الحازمية ومعه المحامي كريم بقرادوني، الزميل فوزي مبارك، بعد جلسة نيابية عقدت تحت القصف الفلسطيني. 

ما هي اسرار تلك الحقبة 

من ابرز الاسرار، ما ورد في كتاب من مار مارون الى الفراغ ومنها انه خلال مؤتمر حول رئاسة الجمهورية في لبنان الذي نظّمته الجامعة الانطونية في بعبدا في شباط ٢٠٠٩، قدّم الأب يوسف مونّس مداخلة حول إبن بلدته الشبانية الرئىس الياس سركيس كشف فيها أحد أسرار علاقته بالولايات المتحدة الأميركية فكتب: 

كانت ليلة مجنونة من القصف والقنابل المتساقطة على قصر الرئاسة. وكان سايروس فانس وزير خارجية أميركا قادماً ليقابل الرئىس سركيس عند الصباح. وكان ضغط القذائف المتساقطة على القصر الجمهوري يجعل منه جحيماً لا يُطاق. الرئيس نزل إلى الملجأ مع أقرب المقرّبين إليه… 

طلبني إلى الكسليك لأصعد اليه. وصلت إلى القصر تحت القذائف. جلست مع الرئىس فباح لي: إن هذا القصف لقتلي او لكسر إرادتي وللتوقيع على التوطين. ثم أضاف: يا بونا بدن يقتلوني إذا ما بوقّع بكرا مع سايروس فانس وزير خارجية أميركا على توطين الفلسطينيين في لبنان. وأنا لن أوقّع. أرجوك أن تحفظ هذا السرّ في قلبك لوقته، وتعرف لماذا يريدون أن يهدموا القصر الجمهوري على رأسي. صلي لي. ودمعت عيناه وقبّلني وصلّينا معاً وأعطيته البركة وذهبت. 

تفضح شهادة الأب مونّس، التي حصل عليها خلال جلسة أشبه بسر الإعتراف، أن الرئيس سركيس واجه مع سايروس فانس وزير الخارجية الأميركية في عهد الرئيس الأميركي الجمهوري جيمي كارتر ما عاناه الرئيس سليمان فرنجيه مع دين براون مبعوث الرئىس الأميركي الديمقراطي جيرالد فورد. لم تتغيّر السياسة الأميركية تجاه لبنان رغم ان الحكم في الولايات المتحدة انتقل من الجمهوريين الى الديمقراطيين في كانون الثاني ١٩٧٧. 

استمرّ مخطط هنري كيسنجر الجمهوري. وتابع تنفيذه سايروس فانس الديمقراطي. واستمرّ اسلوب التصعيد في الشارع لتحقيق الهدف الاستراتيجي الاسرائيلي الذي لم يتبدّل حتى اليوم وهو توطين الفلسطينيين في دول الشتات وكانت حصة لبنان منهم مئتي ألف في تلك الحقبة. 

ولتمرير هذا المخطط وقع الاختيار على حاكم مصرف لبنان الياس سركيس: الإداري الهادئ الذي لا يملك قاعدة حزبية أو شعبية. أرادوا رئىساً ضعيفاً للجمهورية تملي عليه الادارة الاميركية إرادتها فتحصل منه على ما عجزت ان تحصل عليه من سلفه سليمان فرنجيه الزعيم الزغرتاوي القبضاي الذي يتمتّع بقاعدة شعبية تربطه بها عصبية عائلية قوية. 

لكن الرئيس سركيس كان أصلب مما توقّع أصحاب المخطط، وأشدّ عوداً مما اعتقد الذين اختاروه لرئاسة الجمهورية. قال لا للمخططين. ورفض التوقيع على مشروع التوطين. فردّوا عليه بالأسلوب العنيف نفسه الذي واجهوا به الرئيس فرنجيه. وتساقطت القذائف على قصر بعبدا بقوة أكبر من دون أن تغيّر أي شيء على أرض الواقع. 

رئيس الظلّ 

باكراً اكتشف الرئيس سركيس الذي وصفه عارفوه بالناسك والقديس ان لبنان الدولة أضعف بكثير من مواجهة الحرب الاقليمية التي تدور فوق أرضه. فقرّر الصمود في وجه الإعصار، واكتفى بإدارة الأزمة. قرّر أن يترك مهمة المواجهة العسكرية لقوى الأمر الواقع على الأرض الذين يتصدّرهم بشير الجميّل. 

بعد اقل من شهر على انتخاب الرئيس سركيس دخل الجيش السوري الى لبنان في حزيران ١٩٧٦ على اثر احداث مشبوهة وقعت في اكبر بلدتين مسيحيتين في عكار عندقت والقبيات. وقال الرئيس حافظ الاسد انه يلبي نداء استغاثة وجهته الجبهة اللبنانية. 

بعد سنة واحدة من تسلم الرئيس الياس سركيس السلطة كان على لبنان ان يواجه حدثا اقليميا تاريخيا لا يقل خطورة عن حرب حزيران ١٩٦٧. 

فجأة ومن دون مفاوضات تمهيدية، وبحركة مسرحية لافتة، قام الرئيس المصري انور السادات بزيارة اسرائيل في ١٩ تشرين الثاني ١٩٧٨ محدثا صدمة كبيرة في العالم العربي. وانطلقت على الاثر مفاوضات سلام بين مصر واسرائيل برعاية اميركية توجت بتوقيع معاهدة كامب دايفد بين الرئيس انور السادات ورئيس الوزراء الاسرائيلي منحيم بيغن باشراف الرئيس جيمي كارتر، فوقع شرخ هائل في منطقة الشرق الاوسط. 

في آذار ١٩٨١ حاصرت القوات السورية مدينة زحلة، وهي المدينة المسيحية الوحيدة في سهل البقاع، وخاضت معارك ضارية مع قوات بشير الجميّل التي كانت فرضت سلطتها على المدينة، استمر الحصار عدة اشهر، وانتهى بخروج القوات من زحله ضمن اتفاق دولي رعته الولايات المتحدة بشخص مبعوث الرئيس رونالد ريغن الدكتور فيليب حبيب الذي زار دمشق في ٢ ايار ١٩٨٢ ساعيا لمنع نشوب حرب اسرائيلية سورية. 

الاجتياح الاسرائيلي 

في الرابع من حزيران ١٩٨٢ بدأ الاجتياح الاسرائيلي للبنان فاجتازت دبابات ارييل شارون نهر الليطاني… ثم حاصرت مدينة بيروت ودارت اعنف المعارك في العاصمة. وكان الهدف الاول للعملية إخراج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان. وحين تواجه السوريون والاسرائيليون في سهل البقاع كانت النتيجة كارثية على السوريين اذ خسر الجيش السوري ٣٤٥ دبابة و٨٥ طائرة في ٤ ايام. 

في ٣٠ آب ١٩٨٢ كان قد غادر لبنان ١٤٩٨٤ جنديا فلسطينيا آخرهم ياسر عرفات. وجاءت الى بيروت قوات أميركية وفرنسية وايطالية لتؤمّن سلامة عملية مغادرة الفلسطينيين لبنان الى تونس. 

رفض الرئيس الياس سركيس توقيع اي معاهدة هدفها توطين الفلسطينيين في لبنان، ولذلك، فقد الشيخ بشير الجميل، الخيار الوحيد، بعدما فرض نفسه في الشارع المسيحي، وتم انتخابه رئيسا للجمهورية اللبنانية في ٢٣ آب ١٩٨٢. 

ويروى في هذا المجال ان اجتماعا تم مع الرئيس حسين الحسيني موضوعها اتفاق الطائف اخبر الرجل الموثوق به، انه في العام ١٩٨٢، كان من اشد معارضي وصول بشير الجميل الى رئاسة الجمهورية. وانه بناء على الحاح النائب طارق حبشي التقى الرئيس حسين الحسيني الشيخ بشير، وقال له بوضوح ان شريحة كبيرة من اللبنانيين ترفض وصولك الى رئاسة الجمهورية، وانا واحد منهم، لانك بنظرنا تمثل الاصول المسيحية المتطرفة، والتي تشكل خطرا، ليس على لبنان فحسب، بل على المنطقة كلها. وتابع الحسيني: لقد اقترحت على بشير الجميل فكرة التمديد للرئيس سركيس فترة سنتين كمرحلة انتقالية يتم خلالها تشكيل حكومة وحدة وطنية حقيقية، يكون هو احد اركانها، وتجري الاصلاحات اللازمة وتعيد الاستقرار الى البلاد، وتكون الفرصة المناسبة، ليثبت من خلالها اعتداله، فتكون طريقه الى رئاسة الجمهورية بعد عامين. 

وأضاف دولته: فوجئت بموافقة الشيخ بشير على الاقتراح ثم لاقت الفكرة موافقة بعض الدول المعنية بالشأن اللبناني ومن بينهم السفير الاميركي، فتوجهت عندها مع بعض الزملاء النواب الى القصر الجمهوري لعرض اقتراح التمديد على الرئيس سركيس. 

ولم أكد أبدأ حديثي مع فخامته حتى انتفض على غير عادته، وهبّ عن كرسيه معترضاً وقال لي: مستحيل! لن استمر في الحكم يوماً واحداً بعد انتهاء ولايتي. 

حاولت ان اشرح لرئيس الجمهورية خطورة الموقف في البلاد، وضرورة بقائه لفترة انتقالية كي نتمكن من ايجاد مخرج، فردّ منفعلاً: شو بدو يصير يعني؟ بيخرب البلد؟ ايه يخرب…. 

ثم استدرك خطورة كلامه فاعتبر ما قاله زلة لسان… لكنه أصرّ على موقفه، فخرجنا من القصر الجمهوري خائبين. 

لم يكن احد يعلم في تلك الفترة ان المرض العضال ينهش جسد رئيس الجمهورية، وقد بدأ يفقد تركيزه احياناً. لقد رفض الاستمرار لفترة انتقالية في الحكم بسبب وضعه الصحي المتدهور… وليس تهرباً من تحمّل المسؤولية. رحمه الله. 

تم انتخاب الشيخ بشير الجميل رئيسا للجمهورية اللبنانية باكثرية اثنين وستين نائبا، من اصل تسعة وتسعين، حضروا الى ثكنة الفياضية بحماية الدبابات الاسرائيلية التي كانت تحتل محيط القصر الجمهوري ووزارة الدفاع. 

بعد ٢٢ يوما على انتخابه، استشهد الرئيس المنتخب في ١٤ ايلول ١٩٨٢ بتفجير بيت حزب الكتائب في الاشرفية خلال اجتماع كان يحضره ضباط اسرائيليون. 

بعد اسبوع واحد على انتخابه انتقل بشير الجميل في ليل الاول من ايلول ١٩٨٢ على متن طوافة عسكرية اسرائيلية الى مستوطنة نهاريا للقاء رئىس الوزراء الاسرائيلي منحيم بيغن فجرى اللقاء عند الساعة العاشرة ليلا داخل مصنع للعتاد شبه العسكري وليس في فندق او حتى ثكنة عسكرية. 

هذا ما كشفه الصحافي الفرنسي ألان مينارغ Alain Ménargues في كتاب عنوانه: اسرار الحرب اللبنانية جمع معلوماته من وثائق المخابرات الاسرائيلية والفرنسية، وصدر عن دار Albin Michel في باريس عام ٢٠٠٤ ونشر باللغة العربية عام ٢٠٠٦ عن المكتبة الدولية – بيروت. يكشف هذا الكتاب معلومات دقيقة، وتفاصيل مذهلة تناولت الحقبة التي سبقت مقتل الرئيس بشير الجميل، وصولا الى عهد الرئىس امين الجميل، مرورا بمجازر صبرا وشاتيلا. 

يشرح مينارغ تفاصيل اللقاء بين بيغن والجميل الذي استمر حتى الساعة الثالثة فجرا وكان في غاية التوتر. خاطب منحيم بيغن الرئيس اللبناني الجديد بنبرة عالية ولهجة آمرة. وطالبه بالاعلان عن نيته توقيع اتفاق فوري مع اسرائىل. وبدأ الشيخ بشير يشرح صعوبة اتخاذ هكذا قرار قبل تسلمه السلطة. 

لم يدلِ الرئىس المنتخب بشير الجميل بالتصريح الذي طالبه به رئىس الوزراء الاسرائيلي منحيم بيغن. ولم تتشكل لجنة لدرس معاهدة السلام. ولم تنعقد الجلسة الاولى في ١٥ ايلول. حصل عكس ذلك: طرح بشير الجميل شعار لبنان ١٠٤٥٢ كلم مربع وراح يعمل على تطبيقه. 

يوم عيد ارتفاع الصليب في ١٤ ايلول ١٩٨٢، وبعد ٢٢ يوما على انتخابه، دوّى انفجار هائل في بيت الكتائب في الاشرفية حيث كان الرئيس المنتخب يعقد اجتماعا مع مجموعة من الضباط الاسرائيليين وبحضور بعض مساعديه فقتل على الفور. 

عندما سئل الرئىس امين الجميل عن هذا الموضوع في مقابلة بثتها قناة الجزيرة ليل الخامس من آذار ٢٠٠٤ قال: الذي ضغط على الريموت كونترول هو حبيب الشرتوني. وهو ينتمي الى الحزب السوري القومي الاجتماعي حليف سوريا. وبعد ان دخل السوريون الى قصر بعبدا في ١٣ تشرين الاول ١٩٩٠ توجهت فرقة عسكرية الى سجن روميه واطلقت سراح حبيب الشرتوني. وهذا دليل على ان السوريين كانوا ضالعين باغتيال بشير.