استحضرتُ أمس ذكريات ذات لقاء مع قداسة البابا فرنسيس الأول في حاضرة الڤاتيكان عندما خصّنا (وفد جامعة آل خوري في لبنان والعالم) باستقبال في قاعة مغلقة، وقد حرص على أن يرحب بنا فرداً فرداً، نحن ومن رافقنا من عائلاتنا، وكنّا نحو مئة شخص. ورفض قداسته أن يجلس لأنه لم تكن ثمة مقاعد للجميع، وسلّم كلاًّ منا سبحة صلاة من يده الكريمة، وتحدث عن لبنان الذي في قلبه (…).
ذكرى هذا اللقاء الثمين استحضرتها، أمس، الى ذاكرتي وأنا أشاهد، عبر شاشات التلفزة، البابا فرنسيس محوطاً بالرئيس سعد الحريري والسيدة عقيلته وأفراد عائلتيهما، الحريري الذي اقتدى بالمغفور له والده الرئيس الشهيد رفيق الحريري، الذي كان له غير لقاء مع المالك سعيداً في الحاضرة الڤاتيكانية، حيث كان اللقاء يدور على لبنان خصوصاً، وعلى السلام العالمي عموماً.
ونقل دولته أن قداسته أبلغ اليه كم أن لبنان مهم بالنسبة اليه وكم أن العيش المشترك في لبنان يشكل بالنسبة اليه مثلاً ومثالاً للمنطقة كلها. والبابا فرنسيس، في هذا الموقف، يسير على خطى أسلافه العظام الذين خصّوا هذا الوطن بمظلة حماية معنوية كبيرة، نشأت منذ نحو 1500 سنة وهي مستمرة، حتى اليوم، بالزخم ذاته. فالبابا القديس يوحنا بولس الثاني وصف لبنان بالوطن – الرسالة وحمله في قلبه ووجدانه، وسعى في سبيل إنقاذه من مصير كان يبدو مجهولاً، وأقام له مجمعاً كنسياً بالغ الأهمية هو «السينودس من أجل لبنان» الذي كان لي شرف رئاسة لجنة الصحافة فيه (يومها كانت الصحافة المقروءة هي الوسيلة الإعلامية الأشد فاعلية قبل إنتشار الإعلام الإلكتروني) وكان منسّق أعمال السينودس غبطة البطريرك الحالي، مطران جبيل في حينه، بشارة الراعي.
والى الذين يرددون ما قاله ستالين قبل نحو ثلاثة أرباع القرن متسائلاً في مؤتمر يالطا: كم عند الڤاتيكان من دبّابة؟ إليهم لا نرد بما رد به الرئيس الأميركي روزفلت ورئيس الوزراء البريطاني تشرشل على حليفهما الذي انتصرا واياه على «المحور» في الحرب العالمية الثانية… إنما نرد بما قاله الرئيس الحريري أمس من الڤاتيكان بالذات، متحدثاً عن دور الڤاتيكان في معالجة القضايا (قضايا لبنان والعالم) بطريقة دقيقة وديبلوماسية. في إطار رسالة السلام والمحبة. كما سمع الشيخ سعد من قداسته أنه يجب الحفاظ على «هذا اللبنان».
صحيح انّ الڤاتيكان قد درج على إستقبال رؤساء وقيادات وناشطين مسلمين (غير مسيحيين عموماً) إلاّ أنّ لزيارة رئيس الوزراء اللبناني الى تلك الحاضرة نكهة خاصة ومفهوماً مميزاً، كون هذا الوطن يتفرّد عن سائر بلدان المعمورة بأنه بلد العيش الحقيقي بين أتباع مختلف الديانات والعقائد ما يؤهله فعلاً ليكون منتدى دائماً لحوار الحضارات والثقافات والأديان وفق ما طالب به الرئيس العماد ميشال عون في رحلته الأخيرة الى الأمم المتحدة والڤاتيكان وباريس.
وهذا المعنى اللبناني يتبلور أكثر وأكثر مع الرئيس الحريري (المسلم السني) الذي يجسّد الإعتدال الحقيقي في زمن العنف والإرهاب والحروب والصراعات التي تلوح من ضباب غبارها ملامح الحرب النووية.