لم يعد لبنان يستطيع العودة إلى “النأي بالنفس” بعد انطلاق الحملة الدولية والعربية ضد الإرهاب. فات الأوان حتى لو شاء وزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل التملص ورسم الأمين العام لـ”حزب الله” حدوداً لسياسة البلاد الخارجية. فالجيش اللبناني سبق الغرب والعرب إلى المواجهة مع “داعش” والإرهاب عموماً في الداخل وعلى الحدود، وهو يتلقى سلاحاً وذخيرة من الولايات المتحدة الأميركية تحت عنوان أنه يحارب “داعش”. يستحيل أن يرفض لبنان الرسمي أي طلب للتحالف ضمن إمكاناته يتعلق بإنجاح الحملة على الإرهاب فيما جيشه في قلب المعركة ضده.
هل أدرك السيد نصرالله متأخراً أهمية مبدأ حيادية لبنان؟ كلا لم يكن هذا منطلق موقف حزبه في الكلمة المتلفزة التي وجّهها إلى اللبنانيين مساء الثلثاء، بل موقف طهران التي لم توافق واشنطن على إشراكها هي والنظام السوري في التحالف لأسباب متعددة، يظل أبرزها موقف السعودية وسائر الدول العربية التي اشترطت استبعاد هذا الخيار كي توافق على تغطية المفاجأة العسكرية للرئيس باراك أوباما عربياً وإسلامياً. يكفي أن تكون مقاتلة واحدة من كل دولة عربية مشاركة قصفت هدفاً واحداً في سوريا أو العراق كي لا يعود ممكناً إطلاق تسمية “الحرب الصليبية” على الحرب ضد “داعش”.
أوباما أيضاً يفرض شروطه، “لن نتدخل إلا بمشاركتكم”، قال للعرب، الرجل الذي بنى برامجه ومشاريعه وحكمه على استعادة القوة للاقتصاد الأميركي وتحسين الخدمات الصحية والاجتماعية لمواطنيه وسحب القوات الأميركية من أفغانستان والعراق كان مذهلاً في الأيام الماضية، ممسكاً المبادرة بقوة في يده وهو يعلن الحرب وانطلاق العمليات العسكرية ضد “داعش” وأخواته في سوريا والعراق.
خلافاً للسيد نصرالله. خصوم سياسته وحزبه في لبنان يذكّرونه بأن مرجعيته في إيران “استقتلت” لإدخالها في التحالف الدولي عارضة في المقابل ما لديها: التساهل في ملفها النووي. لم تقبل واشنطن. لو قبلت لكان اختلف موقف نصرالله، لكان قال إننا لظروف موضوعية نقاتل عدواً مشتركاً ونرحب بأي تعاون دولي للقضاء على التكفيريين. رغم ذلك لا يزال التفاوض مستمراً مع طهران، دولياً وعربياً، تفاوض يشوبه ارتباك في الخطاب الإيراني مشابه لارتباك خطاب “حزب الله” في بيروت. فالرئيس حسين روحاني ينتقد رئيس النظام السوري بشار الأسد لقبوله بخرق بالغارات الجوية على أرض بلاده، ومرشد الثورة السيد علي خامنئي يبدي تفهماً. يقول السيد نصرالله إن “الغارات سوف تنتج تغييرات جذرية بعد أسابيع في المنطقة”، لكن هذه الفقرة تُسحب من كلمته لاحقاً على مواقع الحزب.
صحيح أن المعركة تدور على جبهتين، في سوريا والعراق، لكن الجبهة اللبنانية مهمة أيضاً، وتتأثر بما يدور في سوريا بقوة. ولعلّ أكبر عامل تغييري في طبيعة المواجهات داخلها أن النظام هناك بات عاجزاً عن استخدام سلاحه الجوي الذي يشكل عنصر تفوقه على المعارضين خشية اصطدامه بمقاتلات التحالف التي تملاً الأجواء، ولا يمكن إهمال الرسالة الإسرائيلية بإسقاط مقاتلة جوية سورية فوق الجولان. لن يستطيع “حزب الله” التعويض بالحديث عن امتلاكه طائرات تحلق من دون طيار وتحمل صواريخ موجهة.
إلا أن مؤشرات أمل تبرز عندما يتحدث نصرالله عن المفاوضات لإطلاق الرهائن من عسكريي الجيش اللبناني وقوى الأمن. كان واضحاً أنه يتحدث تحت ضغط من رأي عام، خارج بيئته وداخلها يمكن. هذه المرة أزعجته ردود فعل أهالي العسكريين على مواقف دأبت على إطلاقها قناة “المنار” ووسائل إعلام أخرى مكتوبة ومسموعة تدور في فلك سياسته. نفى متكلاً على نعمة النسيان. “كلا لسنا ضد المقايضة”، قال لأهالي العسكريين واللبنانيين. لم يكن نصرالله يبدي سابقاً أي اكتراث لسماع الرأي العام. هذا تطوّر جيد.