Site icon IMLebanon

لبنان في محنته الجديدة

كل كيان وطني له قصة. وهي قصص مختلفة عن بعضها بعضا. منها ما تغمس بالدم إثر ثورة أو حرب٬ ومنها ما اتفقت عليه الدول الكبرى. ومنها ما كان نتيجة إرادة شعبية لمجموعة من البشر متشاركة عرقيا أو دينيا أو لغويا أو اقتصاديا. وكثيرة٬ عبر التاريخ٬ هي الكيانات والدول التي قامت٬ واستمرت وتلك التي تفككت أو زالت.

ومن بين الكيانات الوطنية التي نشأت بقرار دولي٬ ورغم إرادة قسم من أبنائه هو لبنان. وكما هو معروف «دولة لبنان الكبير» أنشئت عام 1920 بقرار من المفوض السامي الفرنسي٬ الجنرال غورو٬ رغم إرادة المسلمين فيها٬ بل ربما رغم رغبة قسم كبير من المسيحيين٬ الذين كانوا يؤثرون قيام دولة مسيحية أصغر على جبل لبنان٬ وقسم من بقاعه بحماية فرنسا.

إلا أن «الدولة اللبنانية» تحولت ­ أيضا بقرار فرنسي ­ إلى «الجمهورية اللبنانية» وسنحت فرصة دولية للاستقلال عام ٬1943 فكان «الميثاق الوطني» بين زعماء المسيحيين والمسلمين على العيش مًعا في كيان وطني واحد مستقل عربي الانتماء القومي.

حكم لبنان في السنوات الأولى من الاستقلال بالدستور والميثاق الوطني معا. على الرغم من كل التحولات السياسية والانقلابات التي توالت على المنطقة العربية بعد قيام دولة إسرائيل٬ وعلى الرغم من «الهزات» الداخلية الطائفية وأخطرها ما سمي بثورة 1958. ثم مّر لبنان بأزمة انتقال المقاومة الفلسطينية من الأردن إلى لبنان٬ التي أشعلت الحرب الأهلية فيه٬ ودامت خمسة عشر عاما تمزق خلالها الوطن وغابت الدولة٬ إلى أن كان اتفاق الطائف الذي جدد الميثاق الوطني وأكمله ووضع أسس تدعيم الدولة والوحدة الوطنية مستقبليا.

أنهى اتفاق الطائف الحرب الأهلية٬ وعزز الكيان الوطني٬ ولكن الوصاية السورية التي فرضت عليه عطلت إكمال تنفيذه (اللامركزية وتجاوز الطائفية السياسية) ثم كانت ثورة الأرز التي تلت اغتيال الرئيس رفيق الحريري٬ وأجبرت القوات السورية على الانسحاب من لبنان٬ فأمل اللبنانيون بابتداء عهد وطني ­ سياسي جديد.

إلا أن ما لم يكن منتظرا هو أن يتحول «حزب الله» إلى قوة عسكرية مستقلة عن الدولة٬ تتلقى تعليماتها من إيران٬ وتعلن تحالفها مع النظام السوري٬ وأن يعقد حلفا سياسيا مع التيار العوني٬ الذي يتمتع بتأييد قسم كبير من المسيحيين. وما أدى إليه ذلك من شلل في الحكم وتعطيل للحياة البرلمانية٬ وفراغ في رئاسة الجمهورية٬ وإلى ما هو أخطر على حياة اللبنانيين٬ ونعني الضائقة الاقتصادية٬ التي بلغت ذروتها مع قرار دول مجلس الخليج «مقاطعة لبنان» نتيجة الحملة العدائية لها التي يشنها قادة ووسائل إعلام «حزب الله». وتدخله في شؤون عدة دول عربية٬ بل وإرسال مقاتليه إلى سوريا لمساندة النظام ضد الشعب فيها.

لقد استطاع اللبنانيون قادة وشعًبا٬ تجاوز الثورات والحروب الإقليمية والداخلية والأزمات المتتالية التي سببها «حزب الله» وحليفه العوني٬ ولكن «الخناق» هذه المرة أشد وأخطر. ذلك أن اللبنانيين استطاعوا التغلب على تخريب الحروب وما بعد الحروب لاقتصادهم٬ بفضل نزوح مئات الألوف منهم إلى السعودية ودول الخليج للعمل٬ وتحويل مليارات الدولارات إلى أهلهم في لبنان٬ كذلك بفضل قدوم عشرات الألوف من السياح والمصطافين العرب الخليجيين إليه٬ التي شكلت طوق النجاة الأخير للحكم٬ بل للكيان اللبناني المستقل٬ ولا نغالي. إذا استمر «حزب الله» في التهجم على السعودية ودول الخليج٬ واستمر التيار الوطني الحر في تعطيل المؤسسات الدستورية اللبنانية٬ فإن لبنان واقف أمام هوة مجهولة القرار.

من الصعب إقناع «حزب الله» بتغيير موقفه فأمره إيراني. واللعبة الإيرانية في المنطقة تتقدم وتعلو على وجود أو عدم وجود رئيس للجمهورية في لبنان. ولكن  الأمر يختلف بالنسبة للتيار الوطني الحر وقواعده الشعبية المسيحية٬ التي لا تريد حتما أن يحكم لبنان من إيران أو دمشق ولا أن يختنق لبنان اقتصاديا ولا أن يبقى المركز السياسي الأول في لبنان المتفق على أن يملأه ماروني٬ شاغرا. أمام كل هذه الأبواب المغلقة بوجه الحكم اللبناني واللبنانيين٬ قد يكون انتخاب رئيس للجمهورية مفتاح باب صغير٬ ولكنه الباب الذي ما زال مفتاحه في أيد اللبنانيين. وعلى الأخص المسيحيين الموارنة.

«ما كل مرة بتسلم الجرة» ­ يقول المثل اللبناني ­ وما وصلت إليه الدولة اللبنانية (من فراغ في رئاسة الدولة٬ وتكدس النفايات في الشوارع ومقاطعة خليجية له) ينذر بأخطار قريبة قد يتعرض لها لبنان دولة وشعبا بل وكيانا. ليس حتًما أن تندلع حرب أهلية جديدة بين أبنائه٬ ومن الصعب أن «يتلبنن» «حزب الله» ويتخلى عن ميليشياته و«مقاوماته»٬ وقد يقوم غدا في سوريا نظام حكم جديد يساعد اللبنانيين على حل مشكلاتهم لا استغلالها لمصلحته.. وقد لا يصل اليأس باللبنانيين إلى حد إعادة النظر بالكيان.. ولكن ما هو راهن وأكيد٬ اليوم٬ هو أن لبنان٬ وطنا ودولة وشعبا واقتصادا٬ ينزلق نحو هاوية مصيرية مجهولة القرار وأن المسؤولين المباشرين عن هذا الانزلاق هم حزب الله والتيار الوطني الحر٬ ابتداء من موقفهما السلبي من انتخاب رئيس للجمهورية٬ وصولا إلى مواقف وزير الخارجية في مؤتمرات عربية وإسلامية٬ ومرورا بالتدخل العسكري أو الإرهابي لحزب الله في سوريا وأكثر من بلد عربي.