إنّ متابعة قمة كمب ديفيد أمر لا يمكن تجاهله، ولكن بما هي جزء من مشهد دولي إقليمي كبير وواسع ومتعدّد الاحتمالات، وهذه القمة دعا إليها الرئيس الأميركي بعد عشرين دقيقة لتسويق الاتفاق الإطار حول النووي الإيراني مع الخمسة زائد واحد في لوزان، والذي اعتبره أوباما انتصاراً للدبلوماسية الأميركية.إنّ أمام الرئيس أوباما تحديات داخلية مع الأكثرية الجمهورية وخارجية مع اسرائيل التي دخلت في مواجهة علنية وغير مسبوقة مع الإدارة الأميركية. كما كان عليه أيضاً إقناع دول الخليج العربي التي هي دول الجوار الإيراني.
استبقت هذه القمة جملة من التطورات واللقاءات والقمم، بدءاً بزيارة كلّ من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الى الرياض، ثم الملك المغربي محمد السادس، ثم حضور الرئيس الفرنسي لقمة مجلس التعاون الخليجي، ثم زيارة وزير الخارجية الأميركية الى الرياض، ثم التواصل مع روسيا، ثم اجتماعات باريس قبل الذهاب الى كامب ديفيد. وتأتي هذه القمة مع تعاظم التطورات في سوريا والعراق وبدء الهدنة الانسانية في اليمن، ومع زيارة الرئيس العراقي الكردي فؤاد معصوم الى طهران لاحتواء الأحداث الكردية في ايران. والأهم من كلّ تلك التطورات هو اختيار الفاتيكان الاعتراف بالدولة الفلسطينية عشية الذكرى ال67 للنكبة في ١٥ أيار وبالتزامن مع قمة كامب ديفيد وعشية الإعلان عن تقديم الحكومة الإسرائيلية اليمينيّة الى الكنيست لنيل الثقة.
هناك أحداث متصلة كثيرة ولا نستطيع رصدها كلّها، وأصبح اليوم الشرق- أوسطي يحتاج الى أكثر من يوم لمتابعته. ويبدو أن سرعة المتغيرات تسابق التوقعات والتحليلات، وذلك بسبب عدم القدرة على إدراك اللحظة السياسية التي تمرّ بها المنطقة برمّتها. وربما تكون سرعة التطورات الآن أكبر بكثير من تلك التي ذهل فيها الجميع إبان ثورات الربيع العربي الذي صنع خريف مكوّنات كثيرة جداً من واقعنا العربي الحزين والمقيت.
أعتقد أنّنا نشهد يالطا جديدة حول الشرق الأوسط، أي أننا تأخّرنا عن عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية سبعين عاماً بالتمام والكمال. ومعنى يالطا الجديدة هو أنّ هناك نظاماً إقليمياً جديداً يتمّ تظهيره الآن وليس التفكير فيه، فإنّ دول مجلس التعاون الخليجي في قمة كمب ديفيد تشكّل دولة عربية جديدة قوية عسكرياً واقتصادياً واجتماعياً. وهذه الدولة العربية الجديدة لم يعرفها العالم على هذا النحو قبل عاصفة الحزم التي تشبه كثيراً نزول القوات الأميركية على شواطئ النورماندي لقلب الموازين في نهاية الحرب العالمية الثانية، وكما لم يعرفها العرب كذلك أيضاً.
النظام الإقليمي الجديد لا وجود فيه لسوريا أو العراق أو الأحزاب القومية أو العقائدية أو الجيوش الوطنية. ولا شكّ أنّ حلف بغداد الذي كان قد انكفأ مع أحداث لبنان عام ٥٨ هو الآن أحد ركائز النظام الإقليمي الجديد، متمثّلاً بإيران وتركيا وباكستان ولكن بدون بغداد وبدون دولة الوحدة العربية في سوريا. وفي النظام الإقليمي الجديد كلّ الطوائف الاسلامية والمسيحية متَّهَمة بأمر ما، ووحدها الجماعات اليهودية بمنأى عن أي اتهام، وهي الأكثر استقراراً بين الجماعات الدينيّة المكوّنة للإقليم.
النظام الإقليمي الجديد سيجعل من مصر دولةً شديدة البراغماتيّة، وتلك هي أسباب حياة الدول ذات الأعداد الكبيرة والتي لا تستطيع أن تنظر الى خارجها إلاّ من خلال احتياجات شعوبها. وكانت مصر قد خسرت كثيراً في التوسّع وأيضاً خسرت مصر كثيراً بالانكفاء والتبعية لأميركا، ولذلك لم يعد أمامها سوى إقامة نظام مطّاطيّ مرن وبرغماتي يضع مصلحة المصريين على رأس أولويّاته.
سيكون اليمن شأناً خليجيّاً مئة بالمئة، اقتصاديّاً واجتماعيّاً وسياسيّاً. وسيكون العراق شأناً إيرانياً كردياً ولا قيمة فيه للعرب، الشيعة والسنة، بسبب التداخل الاستراتيجي الإيراني- الشيعي والكردي- السني غير العربي، بعد أن أصبح الأكراد المجموعة الأولى في المشرق العربي، تدريباً وتنظيماً وتأثيراً. وسيكون أمر سوريا تركي- روسي- إسرائيلي- بريطاني، وأيضاً بدون العرب السوريين، أكثرية وأقليات على حد سواء.
سيكون الفلسطينيّون مكوّناً ناشطاً وفعّالاً، وستكون لهم هويّتهم المتداخلة مع الأردن وإسرائيل في إطار ما يعرف بالمثلّث الذهبيّ الأردني- الإسرائيلي- الفلسطيني والذي سيكون الأكثر استقراراً والأكثر استثماراً، وسيكون لفرنسا والفاتيكان والدول الكاثوليكية دورٌ كبيرٌ في حماية وإدارة المقدّسات المسيحيّة والسياحة الدينيّة بعد المؤتمر الدولي للسلام في الشرق الأوسط.
ربما ينوب لبنان العظيم من الطيب نصيب، فلا وجود للبنانيّين في دائرة صناعة النظام الإقليمي الجديد بمعزل عن أحلام البعض بالسيطرة وآخرين بالتقسيم والبعض بالحفاظ على الدولة المركزية المحطمة على قاعدة «اللي بتعرفو أفضل من اللي حتتعرّف عليه»، لأنّنا جرّبنا كلّ الصيغ والنتيجة كانت الفشل، إذ أنّنا غيّرنا الصيغ وأبقينا على الطبقة السياسية التي هي أصل العلّة لأنها تريد إما أن ترجع الى الوراء أو أن تصعد الى الأعلى دون أن تفكّر يوماً بالتقدّم الى الأمام. ولذلك كان مصير كلّ الذين حاولوا التقدّم الاغتيال، من كمال جنبلاط الى موسى الصدر الى بشير الجميل الى رفيق الحريري. ولذلك سيكون دور لبنان في النظام الإقليمي الجديد حقل اختبارات من جديد.