أسبوعاً بعد آخر، تبدو التظاهرات التي كانت «تجتاح» مُدن العراق كُل جمعة وكأنها لم تعد كما كانت بصخبها وخطابها وآمالها. تغدو أشبه بمُمارسة فولكلورية لبعض شُبان الطبقة الوسطى المدنيين. وكأن الإجراءات التقشُفية والإدارية الشكلية، التي أقدم عليها رئيس الوزراء حيدر العبادي، أقنعت القاعدة الأوسع من المتظاهرين، وأن رجال الفساد الفظيع ونُخبة الحُكم الطائفية، الموالية بغالبيتها لدول إقليمية شتى، وهوية العراق السياسية/الكيانية المُحطمة، ومعها الانشقاق الوطني الحاد وسلطة زُعماء المافيات والميليشيات…، لم تعد تشحذ أية همة للاستمرار بما بدأوا به.
مثل الشُبان العراقيين المُنتفضين حال أقرانهم اللبنانيين. فمن تظاهرة مدنية جمعت آلاف المُتحدرين من حساسيات جهوية ومذهبية وطبقية شتى، وربما متباينة ومتخالفة، ممن يجمعهم حسٌ مدني باهتراء السُلطة الحاكمة، التي لم تعُد تستطيع أن تُنفذ حتى أصغر مهماتها الخدمية، بات الحراك اليوم مُنقسماً على نفسه، وغارقاً في تفاصيل وحزازات شخصية وتكتُلية، من دون برنامج وطروحات ورؤية واضحة لما هو مطلوب، وطبعاً من دون قدرة على تحريض المزيد من الكُتل الاجتماعية للانضمام إلى الحراك.
ما كان يجمع الحراكين العِراقي واللبناني ليس فقط طبيعتهما غير الصِدامية وغير الصفرية مع السُلطات الحاكمة، على ما كانته باقي «الثورات» العربية. بل أيضاً خصائص في بنيتيهما، أهلتهما لهذا الانطفاء»، من دون أن تُحققا ما كانتا تتأملانه في البلدين، وإن في شكل نسبي.
فهما كانتا، على عكس كُل البُلدان العربية الأُخرى، انتفاضة الأقلية السياسية والأهلية ضد الغالبية الحاكمة. بقول آخر، كانتا حراك الطبقة المدنيّة الوسطى العُليا، ضد سُلطة تستمد قوتها وشرعيتها في شكل ما من الطبقات الشعبية الأكثر عدداً والأقوى.
وهو يشبه ما كان يرمي إليه مانديلا يوماً في سجنه وتحقق، وما سعى أوجلان بعد سنوات الى تقليده، لكنه فشل. فمانديلا في آخر الأمر كان زعيماً للغالبية الجنوب أفريقية السوداء، بينما يبقى أوجلان زعيماً للأقلية الكُردية في تُركيا.
على هذا فالمنتفضون في البلدين واجهوا نِظامين يرتكزان على شرعية انتخابية وتمثيل شعبي معقول، يصعب معه توجيه أية ضربة قاسية للنظام عبر هبّة شعبية استثنائية.
من جِهة أُخرى، فقضايا الثورات اختلفت عن المطالب المدنية التي للحراكين اللبناني والعُراقي. فالقضايا الكبرى أغرت الملايين من الطبقات الشعبية في بلدان الربيع العربي بسهولة بالغة، وشكلت مُحرضاً ومصدراً للإغراء من دون حاجة للتصميم والمؤسسات والانتظام والتوجيه. لقد كانت قضايا أقرب ما تكون للفعل الآدمي الغريزي المحض.
في الحالتين اللبنانية والعراقية، كانت تتعلق بتحديث المؤسسات وتطويرها، ومطالبة بخلق آليات أكثر تطوراً في اجتراح السُلطة الحاكمة وأدواتها، وأكثر ميلاً لفك الوسائل والأجهزة التي صنعتها شبكة السُلطة الفظيعة للزبائنية الشعبية وشراء ولاءات النُخب الخ… من المطالب المُركبة والمؤسساتية والمُجردة والتي لا تلقى إغراء مباشراً للقواعد الاجتماعية الأكثر هامشية. لكل ذلك فهي لم تتمكن من جذب وتحريض الطبقات المُتضررة من السُلطة الحاكمة في البلدين.
أخيراً فهذان الحِراكان اندلعا في دولتين تستند السُلطة فيهما الى بُنى أهلية بعينها، وفي شكل صريح وواضح. وتستطيع هذه السُلطة بكل سهولة أن تُلبس أي حراك مُناهض لها ثوب المُناهضة لهذه البُنية الاجتماعية/الأهلية أو تلك. فمثلما أفشلت السُلطة العراقية التظاهرات الأولى قبل ثلاثة أعوام، واعتبرتها مُمثلة للتيارات السُنية «المُتشددة» المناهضة للعملية السياسية، وأنها بالتالي ثورة مُناهضة للعراقيين الشيعة، فقد اعتبرت الحِراك الأخير مناهضاً للطبقات المحافظة الموالية لإيران وحُكم رجال الدين، وأظهرته مُعادياً لآلاف العراقيين المُحافظين.
على منوالهما فعلت «السُلطة اللبنانية» (إذا كان يصحُ هذا التعبير) فنزّهت بعض الزعامات عن كل نقد أو مُناهضة، وفُرز الحراك بوصفه مُضاداً لزعامات لبنانية بعينهم من دون غيرهم، وبالتالي للبُنية الأهلية التي أفرزتهم. وقُدّم الحراك مناوأة لوزارة أو وزير بعينه، وبالتالي لبيئة هذا الوزير.
من تونس إلى باقي بُلدان الثورات العربية، وبغض النظر عن التفاصيل والسمات التي لكل حراك ومجتمع بعينه، كانت الثورات دوماً «ثورات» ضُعفاء مُهمشين، ضد أقوياء مركزيين، وليس لهؤلاء الضُعفاء سوى مصدر قوة واحد، ألا وهو سيرهم في الاتجاه الصحيح من حركة التاريخ.