لم تكن حادثة قبرشمون السبب الفعلي لانقسام الدولة، بل الصحيح أنها كشفت الواقع المهترئ للدولة وتآكل مؤسساتها وبنيانها وأبسط مفاهيم إدارة شؤون الناس. ونغضب حين نسمع التصنيفَ الدولي لنا بأننا دولة فاشلة، لكن الحقيقة قد تكون أسوأ من ذلك. وقبل التطرق الى التفاصيل المعيبة لإنتاج حلٍّ سياسي لأزمة قبرشمون، لا بد من التوقف عند تأثير عدم انعقاد مجلس الوزراء على إصدار الموازنة.
لم تعد للموازنة أهمية، خصوصاً أنه لم يتبقَ من العام سوى خمسة أشهر. أضِف الى ذلك عدم صحة الارقام الواردة وعدم اقتناع المؤسسات الدولية المختصة بصحة نسبة العجز، ووسط تحذيرات متتالية أننا على شفير انهيار مالي، لكن المشكلة أنّ حسابات الطبقة السياسية لا علاقة لها بحماية المصالح العليا، بل بالاهتمام بالمصالح الضيقة والشخصية.
لذلك ظهرت ابتكارات واجتهادات حول كيفية ضمّ قرار الحكومة حول قطع حساب عام 2017 الى الموازنة بعد إقرارها في مجلس النواب، خلافاً للدستور الذي يشترط حصول ذلك قبل المناقشة. والسبب أنّ تفاصيل حادثة قبرشمون تمنع انعقاد الحكومة، وهنا بيت القصيد.
وفي الصراع الخفيّ العنيف على كيفية المعالجة القضائية لأحداث قبرشمون، ولقطع الطريق على كباش تجميع الأصوات وإحراج الوزراء وحمايتهم من الضغوط لتي سيتعرضون لها، أكد الرئيس سعد الحريري أنه لن يدخل مجلس الوزراء في “صراع” التصويت على إحالة الحادثة الى المجلس العدلي. “فلنتفق جميعاً وبعدها نطرح الملف على جلسة مجلس الوزراء”.
وهذا يعني أنّ أيَّ قرار في هذه المسألة سيتطلب إجماعاً، وهو ما يستلزم حصول تسوية مسبقة بين الجميع.
ربما شعر الحريري أنه قد يخسر معركة التصويت إذا قرّر رئيس الجمهورية استخدامَ كل أوراقه الحكومية مدعوماً بمساندة عملية من “حزب الله” طالما أنّ الفرق هو صوتٌ واحد. لذلك اصبح المدخل الاساسي لولوج هذا الملف إجراء تسوية مسبقة بين جميع الفرقاء طالما أنّ الإجماع الحكومي هو العنوان الوحيد.
وبدا أنّ الرئيس الحريري وجّه إشارات واضحة الى الجميع بأنه ليس في وارد التراجع عن دعمه وليد جنبلاط لأسباب عدة أبرزها:
1-عودة العلاقة بين الحريري وجنبلاط الى الحضن التحالفي وسط تشجيع خارجي لذلك.
2- إنزعاجه الشديد بسبب ما رافق انعقاد الجلسة الاخيرة لمجلس الوزراء لدقائق معدودة، بعد اجتماع الثلث الوزاري المعطِّل في وزارة الخارجية، وبالتالي تمسّكه بموقف حازم كرسالة لعدم تكرار ذلك مستقبلاً.
3- إستمرار الاحتقان في الشارع السنّي ضد رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، ما يجعل الرئيسَ الحريري أكثرَ حذراً حيال أيّ خطوة تراجعية، خصوصاً أنّ الشخصيات السنّية، ولا سيما رؤساء الحكومات السابقين يشتكون من السعي للمَسّ بصلاحيات رئاسة الحكومة.
في الواقع كان استعمال الثلث الوزاري المعطِّل خطأً جسيماً، ولو أنه جرى التراجعُ عنه فوراً بمساعدة من الرئيس الحريري الذي أعلن أنه هو الذي قرّر فضّ اجتماع مجلس الوزراء.
وانطلاقاً من ذلك بوشر البحث في الكواليس عن مخرج يحفظ ماء وجه الجميع، ولكن بين متمسك بالمجلس العدلي وبين رافض له.
وخلال استقباله اللواء عباس ابراهيم، إتصل جنبلاط بالحريري وأبلغ اليه على مسمع ابراهيم انه مستعدٌّ للصعود الى قصر بعبدا وإعلان موقفه المؤيد لإحالة الملف الى المجلس العدلي، شرط أن يكون قد سبق ذلك انتهاء التحقيقات وإظهار أسباب ما حصل بأنه يتطابق مع مبدأ الإحالة.
لكن الفكرة ماتت في مهدها بسبب عقبتين اساسيتين تتركزان على التحقيقات:
الاولى، تتعلق بتسليم جميع المطلوبين من الطرفين، ففيما يصر جنبلاط على أن يتسلّم فرع المعلومات مطلوبي الحزب الاشتراكي، فإنّ طلال ارسلان اشترط بدوره أن يحقّق مع مطلوبي الحزب الديموقراطي كشهود فقط، وأن يعودا في اليوم نفسه بضمانة واضحة من رئيس الجمهورية.
والثانية، رفض الفريق المناوئ لجنبلاط أن تجرى التحقيقات في فرع المعلومات، وأن تُنقل الى جهاز أمني آخر، مع السؤال عن أسباب تسليم المتهمين من الحزب الاشتراكي لفرع المعلومات. وعُلم أنّ جنبلاط سلّم يومها شخصين من الاسماء المطلوبة الى اللواء عباس ابراهيم الذي خابر المدعي العام فقرّر نقلهما الى فرع المعلومات.
وفي المفاوضات على هذه النقطة، وبعد تمسّك جنبلاط بتحقيقات فرع المعلومات جرى اقتراحُ تشكيل لجنة تحقيق رباعية مؤلفة من ضابط من كل جهاز امني تتولّى هي التحقيق. لكن سرعان ما جرى استبعادُها كونها غير عملية وتحمل بذورَ تفجيرها من الداخل.
وهنا تظهر الصورة المرّة، أنّ لكل فريق جهازه الأمني، وعندها تصبح التحقيقات وجهة نظر.
ووسط هذه التعقيدات والتناقضات يبدو المشهد مقفلاً مع تقدم البعض باقتراح فصل هذا الملف عن الجلسات الحكومية من أجل تسيير الواقع الاقتصادي، وتمرير الموازنة من دون مخالفات دستورية، ما يفتح الباب أمام عشرة نواب للطعن فيها.
رغم ذلك هنالك مَن يراهن على أنّ التعطيل لن يأخذَ مداه. فالمناخ الخارجي لا يحبّذ ذلك وهو يدفع في اتجاه إيجاد تسويات تلائم الجميع.
ولا بد من الاشارة الى عدم ظهور أيّ تعليق خارجي حول أحداث قبرشمون رغم خطورتها، بل أكثر توجُّه السفيرة الأميركية للقاء وليد جنبلاط في جلسة مطوَّلة بعد أقل من 48 ساعة على وقوع الحادثة.
“والحلول التصالحية”، كما ورد في بيان كتلة الوفاء للمقاومة “يبرع” اللبنانيون استنباطَها، على سبيل المثال قضية ما بات يُعرف بمقتل الزيادين.
عام 2007 اندلع خلاف بين طلاب داخل حرم جامعة بيروت العربية وتمدّد الى خارج حرم الجامعة ليطال الأحياء المجاورة بعد انتصار محازبي كلا الفريقين لمجموعته، وأسفر عن مقتل عدنان ابراهيم شمص.
وبعد فترة وجيزة خطف الزيادان من منطقة عين الرمانة ليعثرعلى جثتيهما لاحقاً في بلدة جدرا قضاء الشوف، واتُهم في الجريمة أشقاء القتيل شمص.
ومنذ اقل من عامين وتحديداً قبل الانتخابات النيابية الاخيرة، حصل تواصل بين “حزب الله” والحزب الاشتراكي من خلال غازي العريضي، وتم الاتفاق على إقفال هذا الملف. وحصلت لاحقاً اجتماعات بين جنبلاط ومسؤولين في “حزب الله” وحركة “أمل”، وتم التفاهم على تسليم القضاء المتهمين في مقابل تجاوز الحكم الذي قضى بالإعدام، وهو ما سيحصل قريباً.