تضمن خطاب زعيم «حزب الله» السبت، الماضي، كل مفردات لغة التحدي الفوقية. أبلغ اللبنانيين، مراجع ومقامات وأفراداً، أنه الآمر الناهي وبين يديه القرار النهائي. بنبرته الاستعلائية والإصبع المرفوع بوجه الجميع مزّق الدستور والقوانين وتجاوز كل المؤسسات، ووجه رسائل نارية بالاسم إلى بعض خصومه السياسيين، وبلغ الذروة في إعلان اعتزامه فرض شروطه بالتأكيد أنْ لا حكومة «حتى قيام الساعة» من دون تمثيل سُنة «8 آذار»، أي سُنة «حزب الله» وهو الأدرى بالمستوى التمثيلي لهؤلاء في بيئتهم، وبعضم أعضاء في كتلته أو كتل حلفائه، وكلهم كانوا على لوائح انتخابية أشرف على تركيبها وتمويلها وتنظيم معركتها.
لماذا كان السيد نصر الله مضطراً إلى ذاك الخطاب الناري؟ وما الهدف من استعراض فائض القوة كقوله: «شو انتو ما بتعرفوناش»… وتكرار تأكيده أنه مرجع القرار وقاعدته والبوصلة للبلد؟ فهل كان لبنان يا تُرى عشية إعلان حكومة متعارضة معه حتى يفوّت لبعض الوقت، الذي قد لا يكون قصيراً، فرصة ولادة حكومة في مرحلة تُعدُّ دقيقة جداً لجهة التعامل مع التطورات السياسية والتحديات الاقتصادية وخصوصاً النقدية؟
في الحكومة المستقيلة تمثّل «حزب الله» وفريقه بـ17 وزيراً من أصل 30، وفي الحكومة التي لم تبصر النور كانت حصته 18 وزيراً (وربما 19) يمثلون أكثرية نيابية من 74 نائباً من أصل 128. كان قد بشّر بها قائد فيلق القدس قاسم سليماني غداة انتخابات مايو (أيار). هذا الأمر يطرح السؤال الملحّ وهو: لماذا يريد «حزب الله» تعطيل حكومة يملك أكثريتها ويملك قرارها؟ فضلاً عن أن تدخلاته المباشرة أو غير المباشرة، حجّمت حضور الآخرين ونوعية مشاركتهم والحقائب التي تُركت لهم، والأمر لم يقتصر على تمثيل فريقي جعجع وجنبلاط بل كذلك الرئيس المكلف، وكل ذلك من دون أن يعترض أحد، فضلاً عن النموذج الفاقع في إصراره على أن تكون وزارة الصحة من حصته المباشرة، رغم التحذيرات الدولية من أن هذه الخطوة ستحرم لبنان نحو 200 مليون دولار من المساعدات الأميركية والأوروبية!! وفوق كل ذلك مطلوب من الرئيس سعد الحريري، عندما يسمح «الحزب»، أن يترأس حكومة تضم أكثرية خصومه السياسيين (؟!) ودون أي احترام للصلاحيات التي حددها الدستور للرئيس المكلف في عملية التأليف.
القناعة كبيرة في البلد أن أي حكومة يتم تأليفها وفق نهج المحاصصة والفساد السائد، وهو النهج المحمي بالدويلة والسلاح خارج الدولة، ليست الوصفة المثالية لإنقاذ لبنان. وكل ما يجري من ممارسات، ويروّج له من طروحات، وأسماء ستحمل لقب صاحب المعالي، هي تأكيد للمؤكد وهو أن البلد استقر على حالٍ من انعدام الوزن. وتبعاً لكل هذه المعطيات، من العبث البحث عن بوليصة تأمين البلد وأهله. لكنّ الحكومة أياً كانت ستكون مضطرة إلى أن تتخذ بعض الإجراءات لتأجيل الانهيار الكبير أو لإبعاد لبنان مؤقتاً عن شفير الهاوية المالية والاقتصادية… فهل يعتقد «حزب الله» أن الانهيار الذي حذرت منه جهات دولية ذات صدقية سيتوقف عند حدود مناطق هيمنته وحدود مصالح جماعته ومريديه، وأنه سيكون بمنأى عن التداعيات؟
ما يتم اليوم ما هو إلاّ نتيجة طبيعية للتسوية السياسية، وهي في جوهرها خطوة انقلابية متقدمة عن انقلاب الدوحة عام 2008، عندما حاز الفريق الممانع رسمياً حق الفيتو على البلد من خلال ما عُرف بالثلث المعطِّل في مجلس الوزراء. وإذا كان صحيحاً أن التسوية أوصلت العماد عون مرشح «حزب الله» إلى الرئاسة، وقضت بعودة الرئيس الحريري إلى رئاسة الحكومة، فالثمن كان أكبر من أن يتحمله البلد، لأنه قضى بنسيان السلاح والزعم أنه لا يُستخدم في الداخل (…) وكذلك تجاهل الأدوار التي يقوم بها «حزب الله» في سوريا واليمن وأبعد منهما، وبالتالي طي صفحة السيادة والاستقلال والدستور، أي التسليم بقرار البلد مقابل الاكتفاء بحصة من كعكة الحكم. وعندما يعود أطراف التسوية للبصم على قانون «الحزب» للانتخابات الذي مسخ القانون النسبي وأبقى الأكثرية من خلال الصوت التفضيلي على قاعدة التأجيج المذهبي، نجح قائد «الممانعة» الذي يحمي كانتونه الانتخابي بالسلاح وبتسخير إمكانات السلطة لحسابه، في اختراق الوضع السُّني بإيصال أتباعه إلى البرلمان، واستخدام هذه الورقة في الوقت المناسب كما هو حاصل اليوم.
ما أراده «حزب الله» هو إظهار حجم سيطرته، ومعه سيطرة طهران على القرار اللبناني مع كل ما يحمله ذلك من إهانة للبلد وأبنائه، وليوجه رسالة إلى الأميركيين والغرب مفادها أنْ لا حكومة إلاّ بشروطه، وإذا لم تُشكل سيقع البلد في الفوضى والفراغ، والتداعيات لن تبقى محصورة. وفي مسألة العقوبات على نظام إيران والحزب، على الخارج الملحّ على تأليف الحكومة لما هو مرتجى منها، أن يأخذ هذا الجديد بالاعتبار. الجديد هو جعل لبنان ساحة رئيسية في خدمة الأجندة الإيرانية. لكن في حقيقة الأمر لم ينجح الخطاب المسلح في تبديد القلق من العقوبات الآتية المفتوحة على كل الاحتمالات. كذلك فإن استهداف كل الداخل اللبناني لم ينجح في التغطية على الآثار الكبيرة في الإقليم لأن رياح المنطقة لم تعد كلّية مواتية لأشرعة التوسع الفارسية، من التقدم الحثيث في الحديدة وصعدة ضد الزُّمَر الحوثية في اليمن، إلى تمسك كُثر من المسؤولين العراقيين بمصالح العراق أولاً، وانحسار نفوذ طهران في سوريا بوضع الحدود مع لبنان قيد المراقبة ومنع فتح أوتوستراد عبر العراق، وبذلك يصبح مفهوماً الهدف من هذا الاستقواء والوعيد بالانصياع أو نشر الخراب.
بمعزل عن رفض الحريري طروحات نصر الله الاستئثار بقرار البلد وجعله رهينة أجندة خارجية، فالحال وفق هذه السياسة يضع رئيس الحكومة في مواجهة خيارات صعبة، يأمل الكُثر ألاّ يكون الاعتذار من بينها لأنه كهدف ليس بعيداً عما يخطط له «حزب الله»، وورقة القوة الأساسية لدى الحريري وما يمثل التزام الدستور بتقديم تشكيلة حكومية في مواجهة الضغوط لكسره أو لفرض القبول عليه بما سبق ورفضه، وليتحمل رئيس الجمهورية الذي أقسم على الدستور المسؤولية. كل تاريخ البلد مليء بالدروس لكنْ لا أحد يريد أن يتعلم. كل القوى الخارجية جرّبت احتلال البلد وانتهت خارج حدوده، والطوائف التي جرّبت الاستئثار لم تحصد إلاّ الخيبة. والضغوط لجعل لبنان ساحة لمواجهة العقوبات على طهران والالتفاف عليها أمر بالغ الخطورة، ارتباطاً بالوضع الخاص لـ«حزب الله» كطرف داخلي مدجج بالسلاح تحركه طهران. لكن ما يعرفه الجميع، وبالأخص الرئيسان عون والحريري، هو أن الخارج لم يعد مندهشاً ببلادنا «وكم أرزة عاجقة الكون»، وليس مستعداً لمتابعة تسديد فاتورة استقرار البلد الذي يتعرض لعملية خطف موصوفة.
لبنان أمام مفترق ولا ينبغي لأحد أن يعتقد أن محاولة استئثار «حزب الله» بالقرار، ومعه خطر الانهيار الاقتصادي النقدي الزاحف، تُقلق الأصدقاء التقليديين للبلد، ما دام مَن هم في موقع المسؤولية لا يبالون. إنه زمن القرارات الكبيرة، واليوم وحده موقف البطريرك الراعي نبّه إلى مكمن الخطر، وهو أن «البلد لا يمكن أن يُحكم بذهنية الميليشيات».