IMLebanon

لبنان وطن وحيد لجميع أبنائه..  بين واقع الطوائف وأحلام الأفراد..

إنّ ما حدث في السابع من كانون الثاني في باريس سيكون له ما بعده دولياً وإقليمياً .. وإذا اصطدام الطائرات بالبرجين الأمريكيين في ١١أيلول 2001 تحدي لأميركا بميزاتها الإقتصادية.. فإنّ العملية الإرهابية في فرنسا واصطدامها بالحرية الإعلامية أي بالميزة الفرنسية والأوروبية.. وستشهد الأيام والأشهر القادمة موجات جديدة من العداء للإسلام خصوصاً والعرب عموماً .. ولن يميّزوا بين هوية وأخرى.. ورغم تزامن هذه العملية مع الموقف الفرنسي المميّز الداعم للقضية الفلسطينية وتصويتها في مجلس الأمن لصالح حلّ الدولتين.. بالإضافة إلى وقوفها مع الشعوب العربية الراغبة في بناء مجتمعات ديموقراطية ودول تحترم حقوق الانسان.. فإنّ هذا الحدث سيبقى لغزاً ولا يزال في بدايته وسوف نتابع تداعياته وتطوراته في القادم من الأيام.

إنّ الواجب يفرض علينا أن نبقى على متابعتنا لأمورنا اللبنانية وهي محل اهتمام أهلنا ومواطنينا القلقين على وجودهم ومصيرهم وحوارهم ورئاستهم ومصالحاتهم.. ولا بدّ من الإعتراف بأنّ موجات الحوارات التي تعمّ الأجواء اللبنانية أحدثت حالة من الإحباط لدى العديد من الإصطفاف المعروف ٨ و١٤ آذار.. ونستطيع أن نؤكد ظهور إصطفاف جديد مكوّن من عناصر الفريقين السابقين وهو «المعترضون على الحوار».. ويجب أن نتوقف عند هذا الإعتراض ونتمعن بأسبابه وأهدافه.. وخصوصاً أنّ المتحاورين لا يعطون لهذا الاعتراض أي اهتمام.. وأيضاً لا يقدّم المعترضون أية أسباب مقنعة سوى شعورهم بالإحباط الشديد.. وربما نستطيع أن ننطلق من ذلك الإحباط لنفهم أسباب الاعتراض.. أي أن هناك مجموعات وأفراداً من هنا وهناك تشعر بأنّ رهاناتها لم تكن في محلها بل كانت أوهاماً بأوهام.. وأنّ الخلافات التي اصطفوا حولها واعتقدوها أبدية ونهائية فإذا بها آنية وعابرة..

ليست المرة الأولى التي يعاني فيها مجموعات وأفراد لبنانية من الإحباط .. فالعقود الماضية كانت مليئة بالرّهانات الخاطئة والتهيئات.. وكان الانفصال عن الواقع إحدى ميزاتنا الوطنية أو خصائصنا اللبنانية.. ولولا ذلك الاغتراب عن الواقع لكان مصير معظمنا الإنتحار لكثرة ما ارتكبنا بحقّ أنفسنا ومواطنينا ووطننا الوحيد لبنان.. إذ اعتبرنا الاستتباع ميزة لا بل شطارة وذهبنا به في كلّ اتجاه وجعلنا من وطننا ساحة نزاعات بديلة.. وتركناهم يتقاتلون بأجسادنا.. فكانوا الرماة وكنّا وأهلنا وأطفالنا  وبيوتنا الضحايا والأهداف.. وسَيَّدنا الآخرين على أرضنا حتى بتنا نحن الغرباء..

الإحباط ببساطة سببه أنّ كلّ الذين كانوا يستثمرون بالنّزاعات اللبنانية من الأشقاء والأصدقاء والأعداء جميعهم لديهم الآن من الأزمات في بلادهم ما يفوق الخيال.. وجميعهم مدركون الآن بأن تصدير أزماتهم إلى لبنان كان وهماً من الأوهام وكان عليهم أن يعالجوا تلك الأزمات والمشاكل في داخل بلدانهم.. وأنّ معاناة مجتمعاتهم لم تعد تُسَكِّنُها شعارات محاربة الكبار أو ردّ العدوان أو تحرير الأرض.. فلماذا الأرض إذا مات الإنسان على أرضه من الفقر والجوع والاستبداد.. وجميعهم الآن ليسوا على الاستعداد للاستثمار بدولار واحد في أفلام النزاعات اللبنانية الدامية والوهمية في آن..

إنّها حقيقة سعيدة ومرّة أيضاً وهي أنّه لم يعد أمام اللبنانيين سوى إنقاذ لبنان.. وأنّنا أعجز من أن نساعد أحداً لا في قهر الثورة ولا في مناصرة الثورة وقهر الإستبداد ولا في محاربة الإرهاب أيضاً .. وإنّ كلّ ما قد نستطيع أن نقدّمه لأشقائنا وأصدقائنا هو الحفاظ على وطننا الوحيد لبنان.. لأنّهم يريدون من لبنان الآن أن يكون الحديقة الخلفية الآمنة لكي يودعوا فيه أطفالهم وعائلاتهم وثرواتهم بعد أن كانوا يودعون فيه أزماتهم ونزاعاتهم..

إنّ من علامات الإحباط والوهم لدى الكثيرين هو إدراكهم بأنّ ما يجري الآن بين القوى السّياسية المكوّنة للسّلطة هو مصالحة وأكثر من حوار.. لأنّ كلّ ما يسمعونه يدور حول المودة  والتلقائية والتواضع والوطنية ومصلحة البلاد.. وهذا حقيقي.. فإنّ ما يدور الآن هو جملة من المصالحات بعد حوار طويل دام ما يقارب العام وأمام الكاميرات وعلى طاولة مجلس الوزراء وخصوصاً بعد الشغور في رئاسة الجمهورية.. وأنّ من بقي على اصطفافه طوال هذا العام كان منفصلاً عن الواقع وخارج الزمان..

أعرف أنّ الكتابة عما حدث في باريس أكثر جاذبية لأهمية الحدث سياسياً وأمنياً وإعلامياً.. وهو حدث حقيقي وخصوصاً بعد قتل الجناة والاجتماعات الدولية القادمة المعلن عنها .. إلاّ أنّ ذلك سيكون بمثابة العودة إلى المرض اللبناني القاتل وهو أنّ اللبنانيين يفهمون في كلّ كبيرة وصغيرة في هذا العالم باستثناء كيف ينقذون بلدهم.. ولا يعارضون إلا ما يحقق وحدتهم ومن يعمل على إعادة بناء دولتهم.. لأنّهم لم يتعرفوا على وطنهم إلاّ كساحة نزاعات بديلة ونادي رماة واصطفافات .. وإنّ غنائمهم وثرواتهم كانت ثمناً للدماء البريئة التي ذهبت من أجل كلّ شيء إلا من أجل سلامة لبنان..

أعرف أنّه كلام صعب ولكنه ألف باء  خلاصنا الوطني.. ولا وقت لدينا للإدعاء ولا للعنتريات ولا للإرتجال.. ولأول مرة علينا أن ندفع ثمن إنتمائنا إلى لبنان الوطن المتبقي الوحيد لجميع أبنائه بما هو قدر من الأقدار وليس كما جاء في البند الأول من مقدمة الدستور: «أنّ لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه» أي أنّ لبنان خيار من الخيارات .. والحقيقة أنّه لم يعد أمام اللبنانيين خيارات فالحرائق في كلّ مكان من حولنا .. وقد يكون الشعب الفلسطيني هو الأكثر استقراراً الآن لأنه الأعرق في التّشرد واللجوء وخسارة الأوطان وبمنتهى الوضوح أمام تشرّد أشقائنا في سوريا والعراق.. وهذا ما  يجعل من لبنان قدراً وحيداً وأنّه قدر جميل لأنّ الأمم والأوطان والدول لا تتكون إلاّ من خلال وحدة الأقدار..

مرة جديدة أعيد التأكيد على الدّعوة للأفراد بتحمّل المسؤولية والمساهمة في هذه العامية الوطنية الجديدة الدائرة بين القوى السياسية المكوّنة للسّلطة في لبنان.. وإنّه أمر ضروري جداً أن تحصل المصالحة بين الطوائف لأنّها المحرك الأكبر للنزاعات.. ورغم أهمية هذه المصالحة فهي تبقى ناقصة ما لم يساهم الأفراد بجدية فيها للتّأكيد على أهمية الفرد في بناء الدولة والمجتمع وكي لا نترك الطوائف تتورط مرة اخرى بإعادة تكوين السلطة وامتلاكها.. مما سيحدث انفجاراً اجتماعياً قريباً بسبب تجاهل الناس وتجهيلهم واختصارهم لطوائفهم .. ولا بدّ من تحذير الجميع لضرورة احترام الناس لأنّ ما يعرفه القادة يعرفه عموم الناس.. وأنّ اليأس قد بلغ مداه وكلّنا يعرف ماذا يأتي بعد اليأس في كلّ مكان من هذا العالم الآن ومنذ قديم الزمان.. ونحن من أضاع باليأس أربعين عاماً وعلينا أن ننجح بالتعامل مع هذه الفرصة النادرة والتي كانت مستحيلة لعقود طويلة.. وهي أنّ لبنان الآن وطن وحيد لجميع أبنائه بالتّمام والكمال وبدون ادعاء..

وعلى الأفراد الحالمين أن يعترفوا بواقع الطوائف.. وعلى الطوائف أن يعترفوا بحاجتهم لأحلام الأفراد.. كي لا يبقى الأفراد في لبنان بدون واقع والطوائف بدون أحلام.. ولا يمكن أن ينهض لبنان من عثراته الا بواقع الطوائف وأحلام الأفراد..