IMLebanon

لبنان كلّه في انتظار الحريري!

 

.. وأخيراً، وبعد طول أناة، وتحمّل، ومعاناة، صرخها الرئيس سعد الحريري، بالكلام الواضح، والدقيق: «لا! كفى! وطفح الكيل».

تسلم رئاسة الحكومة مرتين: أسقط مرة بالقمصان السود وهو يقابل رئيس الولايات المتحدة، وعندها أحسّ بقوّة الغدر والطعن في الظهر، سدّدها إليه حزب إيران. والثانية، بعدما تحمّل ما لا يُحتمل في الحكومة الحالية. من الصعب أن يتمكن من تحمّل دويلة، مكتملة الأوصاف، رديفة سلبية للدولة، وجيشاً مكتمل التجهيز والقوة، رديفاً للجيش، وممارسات بعض وزراء، خارج القرارات الحكومية، يعلنون «استقلالهم» عنها، ويتصرفون، وكأنهم رؤساء وزراء: حزب ينتزع من الجيش انتصاره على داعش، ويصادر إنجاز الجيش ويعقد صفقة مع المسلحين الداعشيين ويحميهم، ويقلّهم في باصات مكّيفة، إلى الأراضي السورية، بعد انتصار مدوٍّ للجيش. وآخر يسدّد للبنك المركزي، طلقات، ويُطالب بمحاسبة حاكمه، وحزب «إلهي» يسعى بكل ما أملته عليه الإرادة الإيرانية، بغزو سوريا، وإنشاء خلايا العبدلي، الإرهابية في الكويت، والمشاركة في ضرب اليمن، والعراق.. أي حكومة وفاقية هذه. وأي حوار مع ميليشيا، لا تحترم توثيقاً ولا عهداً. فهل الحكومة الأصلية هي حكومتنا المركزية، أم حكومة الدويلة؟. عملية شرشحة، وإذلال، وإخضاع لكل ما هو شرعي. وأخيراً، وبرغم كل هذا التحمّل غير المعقول مؤامرة لقتله يدبّرها الذين يجلسون معه في مجلس الوزراء. ولا يفوتنا تصريح ولايتي إثر اجتماعه بالحريري، وأمام باب السرايا… المشين. أجاء يهددني هذا الداخل أم أن، وراء كلامه المعسول في اجتماعه معه، يخرق كل الأعراف الديبلوماسية، بلا خجل، ولا ذوق ولا احترام لمقامه؟

في السعودية كُشفت له مؤامرة لاغتياله. بلغ السّيل الزبى: خذوا هذه الاستقالة المبرّرة، وانعموا بما تنعمون به من عمالة فاقعة. وكان البيان. وكان الدويّ. وكانت الصدمة.

 

شرح كل أسباب استقالته التي تراكمت أسبابها طويلاً، سواء بمحاولة ضرب الأمن العربي (وهو العربي كوالده)، أو الاقتصادي. التهديد بعقوبات تُدمّر الاقتصاد اللبناني. فهو، أمام ظواهر، داخلية وخارجية، كان لا بد من أن يواجهها لحماية لبنان، وإعلان انتمائه للبُعد العربي، التاريخي، والثقافي، والاجتماعي.

كل شيء واضح. لكن، ولكي يلقي حزب إيران ظلالاً على أسباب موقف رئيس الحكومة، ها هو السيد حسن نصرالله، يُعلن أنه لا يعرف هذه الأسباب… بل إنها ليست داخلية. لينفي بذلك كل ممارساته. وها هو السيد حسن يقول: السعودية «أرغمت الحريري على اتخاذ موقفه». ثم جاء الإعلام الإيراني باللغة العربية: سعد الحريري «معتقل في السعودية»، «سعد الحريري في الإقامة الجبرية». وتنادى المنافقون «نحن مع سعد»: «أفرجوا عن دولة الرئيس سعد». صار رئيس الحكومة مطلباً وطنياً عند هؤلاء. بل صار قضية من قضايا «المقاومة». ابتكارات مخيلات مريضة، تحاول شرشحة رئيس الحكومة، صاحب أكبر كتلة برلمانية، وصاحب شعبية عارمة في الوطن وفي العالم العربي. اتخذوه ذريعة للإقلال من شأنه، ومهاجمة السعودية… وعندما التقى الحريري الملك محمد بن سلمان أمام شهود، وعدسات مصوّرين تحوّلوا إلى علماء «سيميولوجيا»، وخبراء ألوان، وربطات عنق، وديكورات، وستائر: «صور مركّبة! فلا التقى الملك السعودي، ولا رآه». وقالوا: «نُزعت منه الهواتف، ومُنعت عنه الاتصالات، ومغادرة الرياض». والأدهى أنه عندما زار الإمارات العربية، جدّد عباقرة الصحافة الصفراء، القول «إنه إخراج مشروط… والدليل أنه لم يستقلّ طائرته الخاصة، بل «أُودع» طائرة، يرافقه ضباط وحراس لكي لا «يهرب» ويعود إلى لبنان»… والأجمل: آخر جنون إعلامي؛ «خبر عاجل: طائرة الحريري المتوجهة إلى لندن «كوّعت» والحريري سيكون في مطار بيروت الساعة كذا وكذا». حوّلوا استقالة الحريري، ووجوده في الرياض، قضية بوليسية «ثريلر» سينمائياً، مليئاً بالحركة والمطاردات.

وهنا تفتقت مواهبهم الشعبوية فصاحوا «سيسمحون له حتى بزيارة بيروت، ولكن مشروطة، مراقبة، ومواكبة». وها هو الحريري ما زال في الرياض، بل ولكي يستبقوا ما تناهى إليهم من أن الحريري قام بالاتصال ببعض حلفائه هاتفياً، قالوا: «سمحوا له بإجرائها، ولكن محدودة تقتصر على السلامات والتطمين».

لم يعرف لبنان، ولا العالم العربي، صحافة تشبه صحافة المقاومة والممانعة. بل لم تُصَبْ صحافتنا التي كانت منارة الحرية والديموقراطية ورائدة في المهنية، مثل هذا الانحطاط الأخلاقي، والمهني، والسياسي.. باتت كصحف الأنظمة الشمولية، والدكتاتورية ـــ الرسمية، تعبث بالحقائق والوقائع، وتزيّفها، وتتحوّل مصنعاً للشائعات، والديماغوجية، والأكاذيب… الصحافة اللبنانية التي كانت آخر النماذج الحيّة، والحرّة، والجريئة، باتت خرقة، تُوجِّهها جهات، لم تعرف يوماً الديموقراطية ولا الحرية ولا الصحافة الحقيقية ومبادئها، ولا شروطها: كأنهم لم يسعوا فقط إلى تلويث صورة الحريري، بل إلى إعدام الصحافة بأيدي الصحافيين، تماماً كما إعدام وجود لبنان بأيدي «لبنانيين». مدارس العمالة والميليشيات والإرهابيين ومُجافي «الحقيقة» ومصالح البلد، ومصيره، وناسه، ها هي «تنتصر». وبانتصارها تسقط قلعة كانت على امتداد أكثر من قرن من الظواهر الاستثنائية في العالم العربي. ونسأل هنا: أهؤلاء صحافيون حقيقيون أم دخلاء أم «طوابير خامسة» أم «أسلحة» بأيدي الوصايات والاحتلالات، وأصحاب ثقافة الموت، والدم، والغزو، والعدوان؟ أصحافة لبنانية ضدّ لبنان. أف! أهي الخيانة المُعلنة؟ أهي العمالة المحضة، حيث لا إرادة تقودها، سوى إرادة مَن يستهدف البلد والدولة، والجيش، ومصرف لبنان، والاقتصاد، ووحدة الأراضي والسيادة. أصحافة تحرّض على قتل زملائها الصحافيين! وتلقى ترحيباً؟ كأنها ثقافة الحرب الأهلية، أم صحافة تبرير انتهاك لبنان؟ وأي صحافي هذا يحرّض على الديموقراطية، كأنما لم تعد مهمتها الدفاع عن التعدّدية، والحرّية، والاستقلال، أصحافة مع كل عدو يتطاول على البلاد. أهي صحافة ما بعد الصحافة؟ صحافة من دون الصحافة. صحافة تحطيم مواجهة كل عدوان خارجي، صحافة كمْ الأفواه، والتهديد بالقتل، وإلغاء الآخر والوطن والأرض والسماء والحدود؟ بكل أسف نقولها، إن صحافة الحزب الإيراني، كصحافة إيران الرسمية. لا ممارسة مهنية، ولا انتقاد، ولا مواجهة، بل مجرّد سلاح ضدّ الشعب، ضدّ الجمهور الذي تتوجّه إليه، تكذب عليه وتحتقره، وتخدعه، وتمارئ جلاّديه، وفاسديه وقتلته.

ما بعد الحقيقة

في الواقع، صحافة ما بعد الحقيقة (بحسب التعبير الحديث) أو «Fuke NEWS» كانت موجودة أصلاً، من مئات سنين. وتبلورت، وصفيت من كل مَن يعارض، أو يصرخ بالحق، وبالوقائع: تبلورت بجهود قيام الحزب الواحد، والجريدة الواحدة، والمرشد الواحد، والقارئ الواحد: عندنا قطعان فلنعلفها بهذه المخدرات، والاختلاقات، فتبتلعها، بلا أسئلة، ولا تفكّر. من الاتحاد السوفياتي، إلى النازية، فإلى الفاشية، فإلى الماوية، فإلى الأنظمة الشمولية في العالم، وعندنا في عالمنا العربي، صحافة واحدة، لثقافة واحدة، وايديولوجيا واحدة، ومَن شذّ، أو خرج، يُقتل، أو يُعتقل، أو يُنفى. وقد تجدّدت هذه الصحافة، بقوّة القمع، تحت مظلة «إلهية» جددها: الخميني وخامنئي هنا، وآل الأسد، وصدام، والقذافي وعلي صالح، وزين العابدين التونسي… هناك. لكن ما هو جديد عندنا، إن صحافتنا، كادت تصبح امتداداً لهذه الصحافة، بلغتها، ومصالحها، وقاموسها، وأساليبها، وأقلامها ومخوخها (وتسألون لماذا آلت صحافتنا اليوم إلى هذه الحال المتردية؟). نتذكّر كيف تصرّفت صحافة «الأسد» البعثية عندنا، وصحافة المرشد الأعلى في إيران، عندما اغتيل الشهيد رفيق الحريري وبعض رموز 14 آذار. كانت قمّة العجب، والعجائب، وسوء السرائر، واجتراح القصص والحكايات لحرف الأنظار عن قتلة الحريري: تتذكّرون العبسي، والحجاج الاستراليين، ثم ما نشرته «تشرين» البعثية من أن «سعد الحريري قتل والده ليرثه»، وأن جنبلاط قتل سمير قصير لأسباب خاصة، وأن وسام الحسن قتل رفيق الحريري (راجعوا تصريحات زياد الرحباني مثلاً)، ثم استقر «موقفهم» على إسرائيل: اتهموا الحريري ورموز 14 آذار بالعمالة لإسرائيل، وها هي هذه الأخيرة «تغتالهم» كلهم. كأن إسرائيل لا تقتل سوى «حلفائها»..

الشعوبية

إنها الشعوبية الجارية، بكل أوصافها، شهدناها مؤخراً تتغلغل في الغرب، من أميركا مع ترامب، ومن بريطانيا مع تريزا ماي، ومن روسيا مع بوتين، ومن فنزويلا مع شافيز، ومن المجر وبولونيا.. وسواهما. هذه الشعوبية، كانت تجسّدت، «حقيقة» دامغة ضدّ الحقيقة؛ في العالم العربي، بدفع وتمويل وتوجيه من النظام الفاشي في إيران. وها هي، تتفجر بكل تفاهاتها، اليوم، بعد استقالة الحريري. فهي لا تسائل. ولا تناقش. بل توزّع أجوبة كالحلوى المسمومة. وها هي تغزو الوسائط الإلكترونية الاجتماعية، والشاشات التلفزيونية: أف! من أين كل هذه الطاقات المزيفة، التي انتقلت كعدوى الطاعون من الأحزاب النامية والجهادية (المزيفة)، والمقاومة (السابقة) إلى عقول الجمهور، من شيب، وشبان، وأمّيين ومثقفين، ومن باعة خضار، إلى حملة دكتوراه. فأي «حجر فلسفي» هذا يحول الحقائق «الذهبية» إلى حصى وحجارة يُرشق بها أصحاب الحق. أهي أفيوننا الجديد (عفواً أهي كبتاغوننا الجديد: بلغة حزب الله)، أهي أدويتنا المزوّرة (أيضاً عفواً بعهدة الحزب المذكور)، لا عقل. ولا تفكير. كائنات أُفرغتْ من كل مساءلة. تُعبّأ فيها الأخبار والشائعات كما تعبأ الحجارة في أكياس من الورق. بل إن ما تظهر هذه الوقائع الإعلامية هي أن الرأي، والموقف، والفكر اختلطت. فالرأي – الموقف، هو رد فعل غير واعٍ، عفوي، ببغائي، مقابل الفكرة، التي هي توازن بين معطيات العقل والحدث. لا أف إذاً. ولا تفكر إذاً. ولا تأمل. بل هذيانات مرضية تتقيأ كلمات تقرقع، وتصوّت، خارجة من أفواه فارغة. هذه هي الشعوبية، التي ضربت جزءاً كبيراً من أهلنا في لبنان. ليعلن القائد موقفاً ما فيصفقون له، ثم، في اليوم التالي، يُعلن موقفاً مناقضاً فيصفقون له: وهكذا دواليك. إذاً، جمهور تجريدي، ينقل أجساداً فقدت اتصالها بملكة العقل والواقع. مخيلات مريضة، يمكنها تحويل الذكرى، والماضي، والتاريخ، إلى أضغاث تخيّلات واستيهامات. إذاً، الجمهور اللحظوي، هذا «اللازمني» المتقلّب، غير المستقرّ، لحظة تنفصم عن أخرى، ولذا فالزمن مبتور، ومشقق؛ جمهور اللازمن هذا، هذا صنيعة إعلام المرشد الإيراني (وارث كل الأيديولوجيات القاتلة)، وآل الأسد، وبوتين الذي أتحفنا أخيراً بأفكاره أن التهمة التي التصقت بحليفه الأسد: في شيخون بالأسلحة الكيماوية، غير صحيحة.

طرائف مضحكة

لكن، في الواقع، صار هذا الإعلام، على توزعه، طرائف مضحكة. أفلاماً سيئة الإخراج والتأليف، حتى ضجّ عرب كثيرون بنا: أهذه هي صحافة لبنان، التي علمتنا على امتداد أكثر من قرن كيف نكتب، وكيف نرى، وكيف نعبّر، وكيف نكتسب المهنة؟ قالها لي شاعر عراقي موجود في لبنان: يا أخي، أهذه هي صحافة لبنان منارة التنوير والنهضة والحرية والديموقراطية؟ ضحك من صحافتنا، وسخر منها، واحتقرها.. إذاً، صحافة الوصايات والاحتلال الإيراني وقبلها الأنظمة المماثلة لها، دمّرت أثمن ما عندنا: فعندما تحطّم الصحافة، يعني أنك حطمت الديموقراطية، والحرية، بل هوية لبنان الثقافية، والسياسية، والفكرية. كنّا في الماضي نطالب الصحافة بأن تنقذنا، صرنا نطالب اليوم بمَن ينقذنا منها، ومن جهّالها ومرتزقتها، واحتقارها لنفسها، وللجمهور، والنخب…

صحيح أن هذه الصحافة المشبوهة عرفها لبنان قديماً وحديثاً عند بعض المأجورين، لكنها اليوم، وبعد استقالة الحريري (وقبله)، والسيناريوات الهذيانية التي فبركتها، أدركت قمة انحطاطها! وصلت إلى مستويات قياسية تفوقت بها على نفسها في ممارساتها المسعورة، والمجنونة، والهذيانية المرضية.

آخر تجليات هذه الصحافة: «السعودية تأمر عائلة الحريري بمبايعة شقيق رئيس الحكومة بهاء!» قمة! ولا جبال هملايا، ولا جبال آلهة الأولمب.. فجأة تحوّلت من سيناريو «الاعتقال» والإقامة الجبرية، وفرض الاستقالة على الحريري، إلى مكان آخر. يبدو أنها استنفدت ما في جعبها وجيوبها من تلفيق ففتحت صفحة عائلية جديدة. أي انقلاب عائلي على الحريري… ونظن أن التحوّل «المضحك» السخيف هذا، لأن أخباراً عديدة ترجح عودة الحريري، الذي سيرمي نفاياتهم في وجوههم، ويرسم مع حلفائه، مرحلة جديدة من التعاطي مع حزب الجعفري وسليماني وولايتي. الكل في انتظار الحريري، لأن استقالته كانت صرخة مدوية تفصل زمنين، بل لأن الشعب اللبناني عرف أن الحريري، بوزنه وشعبيته ودوره… هو ضرورة لبنانية وعربية!

إذاً، نحن في انتظار الحريري!