Site icon IMLebanon

لبنان مُحاصر اقتصاديا وماليا ونقديا… والعقوبات الأميركية تضرب من جديد

 

 

تمّ استخدام العقوبات الاقتصادية لأوّل مرّة في التاريخ في العام 432 ق. م. حيث قام الإغريقيون بفرض عقوبات تجارية على «ميغارا» نتيجة الخلاف السياسي الذي كان قائما بينهم، مما دفع الإغريقيين إلى القيام بهذه الخطوة لإجبار ميغارا على تغيير سياستها! ومنذ ذلك الوقت، أخذت العقوبات الاقتصادية بالتمدّد وأخذت أشكالا عديدة (الحصار الكامل، العزل…).

 

التأطير النظري الأول المعروف للعقوبات الإقتصادية، يعود إلى العالم البلجيكي هنري لافونتين الذي طرح في العام 1892 فكرة العقوبات السلمية كخيار بديل عن الحرب العسكرية. وكان الفرنسيون أوّل الدول التي اعتمدت هذا المبدأ بعد الحرب العالمية الأولى تبعتها الولايات المتحدة الأميركية في العام 1919 مع دعوة الرئيس الأميركي ويلسون إلى مقاطعة الدول العدائية من خلال منع مواطنيها من التجارة الدولية والتواصل مع العالم. ويُخبرنا التاريخ أن مبدأ العقوبات لم يُكلّل بالنجاح دائما، فقد فشلت العقوبات الاقتصادية التي فرضها المُجتمع الدولي في العام 1935، على إيطاليا لسحب قواتها من الحبشة. كما أن فرض الولايات المتحدة الأميركية عقوبات على الأمبراطورية اليابانية في العام 1940 دفعها إلى الدخول في الحرب العالمية الثانية.

 

شهد العام 1945 تكريسا أُمميا لمبدإ العقوبات حيث ورد مبدأ العقوبات في الميثاق التأسيسي للأمم المتحدة وتمّ وضع القرار في يدّ مجلس الأمن. هذا الأخير استخدم هذه الحق عدّة مرات مثل العقوبات على حكومة الأقلّية البيضاء في روديسيا وجنوب أفريقيا وغيرها. وبما أن مجلس الأمن يحوي من بين أعضائه خمسة أعضاء دائمين يحملون حق الفيتو على القرارات، لم ينجح في فرض عقوبات في العديد من الحالات، مما دفع الدول العظمى إلى التفرّد في فرض عقوبات أحادية على بعض الدول مثل العقوبات الأميركية على الجزيرة الكوبية التي استمرّت أكثر من ستين عاما والعقوبات على العراق، وحكومة جنوب أفريقيا، وأنغولا وغيرها.

 

إلا أن استخدام العقوبات أخذ أبعادًا كبيرة بعد الهجوم الإرهابي على الولايات المُتحدة الأميركية في العام 2001. فقد عمدت هذه الأخيرة إلى فرض عدد من الإجراءات على أكثر من 180 دولة في العالم من أجل مكافحة الإرهاب. ومن بين هذه الإجراءات إلزام الدول تجميد الأصول والممتلكات التابعة لإرهاببين ولمناصريهم مُصنّفين من قبل الإدارة الأميركية. واستطاعت الولايات المتحدة الأميركية إلزام الدول بهذه الإجراءات من خلال تهديدها بفرض عقوبات اقتصادية عليها وهي التي تتمتّع باقتصاد قوي (ربع الاقتصاد العالمي) وشركات ضخمة تُصدّر بضائعها إلى العالم أجمع، وأسواق مالية تحوي على أكثر من 60% من الإستثمارات العالمية والأهمّ سوق استهلاكي هائل مع أكثر من 380 مليون مُستهلك مع قدرة شرائية كبيرة.

 

العقوبات الاقتصادية الشاملة على البلدان أظهرت ضررا كبيرا على الدول التي خضعت لهذه العقوبات. وقد استطاع عالم الاجتماع النروجي يوهان غالتوغ إثبات أن العقوبات الشاملة لا تُعطي بالضرورة المفاعيل المطلوبة حيث ان «الناس تتأقلم مع العقوبات وأحيانًا تلتف حول قياداتها الإرهابية». أيضا أظهر غالتوغ أن الطبيعة الجماعية للعقوبات الاقتصادية تضرب الأبرياء وتجعلهم يخضغون للعقوبات نفسها على الإرهابيين. على هذا الصعيد كان البابا الراحل يوحنا بولس الثاني أول من انتقد العقوبات على العراق نظرا إلى الضرر الحاصل على الأطفال كما انتقد بشدّة العقوبات على كوبا والتي ضرّت بشكل كبير بالمجتمع الكوبي.

 

الهجوم الإرهابي على الولايات المتحدة الأميركية في العام 2001، أبرز إلى العلن القدرة المالية الضخمة التي كان يتمتّع بها منفذو الهجوم والتي فاقت قدرات منظمة إرهابية لتطال دولاً كانت تمول هذه التنظيمات. وبالتالي نشأت فكرة العقوبات الذكية والتي ركّزت على استهداف منظّمات، دول، شركات، جمعيات وشخصيات تعتبرها واشنطن إرهابية. من هنا قامت الولايات المتحدة الأميركية بفرض عدد من القوانين على دول العالم تتناول ثلاثة أمور أساسية: تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، نقل الأموال عبر الحدود وتبادل المعلومات الضريبية. هذه الأمور واجهتها السرية المصرفية التي كانت موجودة في العديد من الدول وعلى رأسها سويسرا، إلا أن الضغط الأميركي جعل كل هذه الدول ترضخ وتُصوّت على هذه القوانين على مثال لبنان الذي صوّت في العام 2015 على قوانين لها صلة ومنها القانون المُعجّل المكرّر 43 و44 و45.

 

مُشكلة هذه القوانين بحسب بعض المنتقدين أنها تُعتبر تخلّياً طوّعياً من قبل الدول عن سيادتها. فمبدأ السيادة الوطنية الذي يُعتبر أساس التعامل بين الدول في المجتمع الدولي، نصّت عليه المادة الثانية من شريعة الأمم المتحدة بقولها «منظمة الأمم المتحدة مبنية على مبدإ التساوي في السيادة بين كل الأعضاء»، وبالتالي من خلال مبدإ التساوي يتمّ الاعتراف باستقلالية الدولة أي «عدم التدخل في الشؤون الداخلية للبلد صاحب السيادة». أيضا نصّ القرار رقم 2625 للجمعية العامة للأمم المتحدة على «حرية الدولة صاحبة السيادة في اختيار نظامها السياسي، الاقتصادي، المالي، الاجتماعي والثقافي من دون أي تدخل للدول الأخرى في هذا الأمر». لكن هذا الأمر لم يتمّ احترامه في العديد من المناسبات على مثال احتلال النمسا من قبل الدول الأربع (في العام 1955) بهدف إرغامها على اعتماد نظام ديموقراطي مبني على الاستفتاء الشعبي. أما على الصعيد الاقتصادي، فيعتبر منتقدو العولمة أن وجود منظّمات مالية دولية هو خرق للسيادة الوطنية من خلال إلزام الدول إجراء تعديلات في أنظمتها الاقتصادية والاجتماعية مقابل الحصول على مساعدة مالية على مثال اليونان وقبرص وغيرها من الدول.

 

ما حصل في اليونان، قبرص، إيرلندا وغيرها من الدول هو مثال على قوّة الضغط العالمية على الأنظمة الحاكمة في الدول. ومن هنا نسأل كيف للبنان أن يُقاوم مثل هذه الضغوط مع وجود مشاكل مالية واقتصادية ونقدية وفي ظل وجود عقوبات على أشخاص وشركات وكيانات لبنانية؟

 

فقد نشرت الإدارة الأميركية البارحة لائحة عقوبات جديدة استهدفت ثلاث شخصيات لبنانية و17 شركة تتهمها واشنطن بتبييض الأموال وتمويل حزب الله. هذه اللائحة تأتي في سياق الصراع القائم بين الولايات المتحدة الأميركية والجمهورية الإسلامية في إيران حيث ترى واشنطن في حزب الله امتدادا للنفوذ الإيراني في المنطقة. وبالتالي ومنذ كانون الأول 2015، تاريخ صدور أول قانون «HIFPAA»، تم وضع أكثر من 100 شخصية لبنانية على لائحة العقوبات وعدد هائل من الشركات التي تعتبرها واشنطن متعاونة مع حزب الله.

 

من هذا المنطلق، نرى أن أزمة لبنان الحالية تخطّت بعدها الاقتصادي المالي لتُصبح سياسية بامتياز وبالتالي يتوجّب على المسؤولين أخذ هذا الأمر بعين الاعتبار والقيام بما يلزم لتدارك احتمال حصول كارثة اجتماعية قد تكون نتائجها غير محمودة سياسًا وأمنيًا.