ان التحولات الاجتماعية والسياسية هي اشبه بالإعصار او البركان، تترك اثرها على الانسان والمكان ويصبح كل شيء بعدها غير الذي كان. لذلك يعيش كل الذين تجرّعوا مرارة التحوّلات العظام في لبنان والمنطقة حالة من التوتر العميق مع عدم القدرة على المبادرة، وخصوصا ان السلطة الحالية في لبنان تكوّنت بعد التحوّل الكبير الذي احدثه زلزال الاغتيال. وأن صانعي الاغتيال كانوا يعرفون ما سينتج عن ذلك الانفجار بدليل استخدامهم رمزية أبو عدس المنتشر الآن في بلادنا وكل بلاد العالم بدون استثناء، وتتكون التحالفات الدولية والاقليمية لمحاربته وتسقط المدن والدول والكيانات. ويعتقد البعض اننا نعيش مرحلة «طابخ السم شاربه»، وأنّ أبو عدس قد تمرّد على صنّاعه كما حدث بين اميركا ومجاهديها بعد هزيمة روسيا في أفغانستان، وكانت نتيجتها تحولات أحداث 11 أيلول.
يعرف الجميع وبدون استثناء أنّه لو استكمل البرلمان نقاشات قانون الانتخابات في ١٤ شباط ٢٠٠٥ ولم يحدث اغتيال رفيق الحريري عبر الانفجار وزرع شريط أبو عدس على أغصان الأشجار، لما كانت الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في لبنان كما هي الان، حيث عاد من عاد وخرج من خرج ودخل من دخل وصعد من صعد ناهيك عن مسلسل الاغتيالات، لأنّ التحوّل الكبير الذي احدثه الاغتيال تغيّرت معه التوازنات والمعادلات والأولويات والوصايات والاتجاهات، كما حدث بعد التحوّل الكبير الذي احدثه الاجتياح الاسرائيلي وخروج منظمة التحرير واغتيال بشير الجميل. وايضاً كما حدث بعد التحوّل الذي احدثه الدخول السوري الى لبنان واغتيال كمال جنبلاط، وقبلها تحوّلات اتفاق القاهرة وايلول الأسود ونكسة وموت عبد الناصر، وتحوّلات احتلال وتحرير الكويت وبعدها تحولات سقوط صدام حسين والعراق، وتأثير كلّ ذلك على لبنان الذي ينتظر تحوّلات مشابهة هذه الايام.
ان التحولات القادمة لا نعرف عنها شيئاً، وهي فوق قدرتنا على تحديدها وإدراكها او التأثير عليها كلبنانيّين وسوريّين وعراقيّين وفلسطينيّين، لأنّ المشرقية التي كنّا نسمع عنها ايام زمان كانت محلّ قوّة وتمايز، أمّا المشرقية الحالية فهي تسكن خيام اللجوء وتواجه العنف والفساد والتسلط والتطرف اذ يعمّ الدمار والتشرّد والقتل والاغتصاب. هذا هو المشرق الآن شعوبه مشرّدة وحكّامه مصابون بالانفصال عن الواقع وبالعمى السياسي، ونخبته مصابة بالتسطّح والادعاء ومنشغلة بتحديد جنس الملائكة وطوفان التحوّلات يدقّ على الأبواب فيما الخبراء الأعزاء يعدّون موائد العشاء للسادة السفراء.
انا حزين جدّاً على مكوّناتنا الوطنية التي تتناوب ممارسة الوصاية والقهر على بعضها البعض، وتمنع قيام الدولة الوطنية على اساس الكائنات الفردية وليس المكونات الطائفية والقبلية، وتقامر بأسباب الاستقرار من اجل اصغر المكتسبات مع استسهال تدمير الثقة بالدولة والمؤسّسات، وتعمل على تعميق الانقسام البغيض في أشدّ اللحظات حاجة للتماسك والثبات. انا حزين على لبنان واللبنانيّين لأنّهم مدنيّون منفتحون وطائفيون متعصبون في آن.
ان التحوّلات الاجتماعية والسياسية هي عملية مستدامة كالزلازل مع تفاوت الدرجات، اذ يصادف احيانا ان تبلغ حدًّا يتجاوز سبع درجات بمقياس رختر فتُحدث اهوال ودمار. وكلّما كانت المجتمعات متماسكة وتمتلك أدوات الحماية والمناعة الضرورية، ومنها الدولة القوية، تكون الأضرار أقلّ والمعالجة أسرع. ان اسباب عدم وقوع هذه التحوّلات الكبرى في المدى المنظور تكاد تكون معدومة تقريباً، وهي واقعة لا محالة ان لم تكن قد وقعت فعلاً ولم نشعر بآثارها حتى الآن، وذلك بسبب الويلات التي نشاهدها في سوريا والعراق، بعد ان اصبح مشرق التنوير والانفتاح مشرق الظلام والانعزال.