IMLebanon

لبنان في دائرة التصحّر

 

ازدهار المقالع… تراجع المساحات الخضراء وتقلبات الحرارة

 

يتعرضُ لبنان منذ العام 2003 – البلد الذي لطالما تغنى شعراؤه بخضرته وطبيعته الأخاذة، ومناخه المعتدل- لشبح “زحف التصحر” بسبب تأثيرات الحروب المتعاقبة، والتوسع العمراني على حساب الاراضي الزراعية وحرائق الغابات وبعضها مفتعل لتعزيز “المفاحم” (المشاحر) مروراً بالمرامل والكسارات وليس إنتهاء بالرعي العشوائي، كل ذلك أدّى إلى تراجع مساحة الغابات في لبنان خلال العقود الماضية بشكل كبير، فبعد أن كانت تساوي ما يقارب 36% خلال الستينات وصلت إلى 13% في وقتنا الحاضر.

التقلبات السريعة في درجات الحرارة في السنوات الاخيرة التي يشهدها بلد الارز تؤشر إلى حقيقة لطالما حذّر منها المدير العام لمصلحة الابحاث العلمية والزراعية ميشال افرام بأن التصحر لم يعد “نظرية” بل واقعاً خطيراً بدأنا نعيشه منذ خمس سنوات، ويتأثر به الشرق الاوسط وشمال أفريقيا ما يفرض على اللبنانيين إتخاذ الاحتياطات للسنوات القادمة، وحتى لو شهدنا سنة “مطرية” أو أكثر، تبقى الكثافة السكانية (بعد النزوح السوري الى لبنان) والاستهلاك الكبير للمياه وضآلة الامطار سنة بعد سنة مع الأسباب المذكورة، بمثابة جرس إنذارٍ يدعو اللبنانيين للحفاظ على المساحات الخضراء المتبقية واستعادة ما أمكن مما فقدوا منها.

 

يقالُ عنهُ إنّه القاتل الذي يتمدد بصمت، وهو بحق قاهر الحياة على كوكبنا إنّه”التصحر”، التحدّي البيئي الذي يأتي كنتيجة مباشرة لأنشطة البشر العشوائية والمكثفة، ولتغيرات المناخ، وهو تحولٌ بيئي لا يمكن التغاضي عنه، وفقَ ما يُحذّر منهُ الكثيرُ من خبراء البيئة .

 

وإنطلاقاً من العلاقةَ الوثيقةَ بين التصحر و”الإستهلاك الجائر للمياه”، نتوقفُ عند آخر هذه التحذيرات التي صدرت عن “معهد الموارد المائية العالمية” في 9 آب الفائت من أنّ 1.8 مليار شخص في العالم، أو ربع سكّان الأرض، يتجهون نحو المعاناة من أزمة مياه، منبهاً الى إمكانية حصول نقص حاد في المياه في السنوات القليلة المقبلة.

 

لبنان ثالثاً

 

وكشفَ تقريرُ المعهد، الذي يتخذُ من واشنطن مقراً له، أنّ 12 بلداً في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من أصل 17 تقع في دائرة الخطر، معدداً أيضاً الهند وباكستان وسان مارينو (أوروبا) وبوتسوانا (أفريقيا) وتركمانستان.

 

ووفقَ التقرير، حلَّ لبنان في المرتبة الثالثة بعدَ فلسطين المحتلة (ثانية) وقطر (أولى) ومتقدماً على كلّ من إيران، الأردن، ليبيا، الكويت، السعودية، إريتريا، الامارات، سان مارينو والبحرين .

 

وفي تقرير مُشابه حذّر “المجلس الاطلسي” في آذار الفائت من أنّ منطقة الشرق الأوسط ستكون الأكثر تأثّراً بالتغيرات المناخية، متوقعاً إرتفاع درجات حرارة أشهر الصيف، وتحوّل مساحات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى مناطق غير صالحة للسكن بسبب التصحر، وموجات الحر الطويلة الأمد والجفاف.

 

الواقعُ اللبناني مع “ظاهرة التصحر” كشفَ عنهُ مدير عام وزارة الزراعة لويس لحود، الذي ترأسَ وفد لبنان الى “مؤتمر الاطراف الرابع عشر لاتفاقية الامم المتحدة لمكافحة التصحر” الذي انعقدَ في نيودلهي – الهند في 12 من الجاري بقوله “إنَّ ما يعادل 60 % من مساحة لبنان هي أراض معرضة للتصحر، وان جزءاً كبيراً منها أصبح متدهوراً بشكل كامل، وخصوصاً المناطق شبه الجافةَ والتي لا يزيدُ معدل الامطار فيها عن 200 ملم سنوياً، بالإضافة الى أنها خسرت غطاءها النباتي نتيجةَ التدخل السلبي للإنسان، وكذلك الحروب التي مرت على لبنان وليس آخرها الحرب في سوريا والتداخل الكبير في الاراضي بين سوريا ولبنان”، لافتاً إلى أن قطع وحرق الغابات والاشجار وتعرية تربتها كُل ذلك أدّى الى فقدان المراعي الطبيعية، وبالتالي الخسارة الكبيرة في الثروة الحيوانية، وهذا أدّى بشكل مباشر الى الهجرة الداخلية من المناطق الريفية المتأثرة الى المدن ومحيطها .

 

وإذ توقفَّ لحود عند تراجع معدلات الامطار وإزدياد والجفاف معها، أعلنَ عن قيام الوزارة بإعداد إستراتيجية لزيادة مساحة الغابات بمعدل 7 % أي من 13 % الى 20 % بعد أن كانت الغابات تُغطي ما يُعادل 36 % خلال الستينات، عازياً الانخفاض إلى الحروب والحرائق والقطع الجائر في المناطق الريفية البعيدة، بهدف التدفئة خاصة عند إرتفاع أسعار المحروقات؛ عوامل متراكمة دفعت لحود للطلب من السكرتيريا والآلية العالمية العمل على مساعدة لبنان لتأمين التمويل المطلوب لتنفيذ مشاريع تؤدي الى مكافحة التصحر وتدهور الاراضي.

 

ومعادلة لحود القائمة على الربط بين تراجع معدلات الامطار وإزدياد والجفاف في المناطق اللبنانية تنسجم مع دخول الكثير من بلدان الشرق الاوسط وشمال افريقيا “دائرة التصحر” أي “أمطار أقل وجفاف أكثر” بدليل حلوله في المركز الثالث في ترتيب تقرير “معهد الموارد المائية العالمية” والذي يعني مركزاً متقدماً في البلدان التي دخلت دائرة الخطر وتتجه نحو المعاناة من أزمة مياه.

 

وتظهر الخريطة التي وضعت بالتعاون بين وزارة الزراعة والوكالة الألمانية للتنمية في العام 2003، واقع التصحر، ومدى خطورة الوضع الذي وصل اليه لبنان وضرورة مواجهته لا سيما في درجتي ( high, very high ) .

 

وفي هذا السياق، يؤكد رئيس الحركة البيئية في لبنان بول أبي راشد أنّ لبنان أصبح ضمن دائرة البلدان التي يتهددها خطر التصحر وتغير المناخ، مبدياً رفضه لإستجداء الأموال من الخارج، قبل قيام المعنيين بمبادرات لحماية غطائنا الاخضر من البناء العشوائي والطرقات والسدود والمقالع… الخ ، لافتاً إلى أنّ ثمة الكثير من المشاكل المتعلقة بالتصحر يمكن حلها بأنفسنا، مذكراّ أنّه في بداية العام 2017 قرر مجلس النواب تحرير الاراضي المصنفة زراعية، سائلاً : “ماذا فعلنا مثلاً حيال موضوع حرائق الغابات؟ هل أعطينا الدفاع المدني حقوقه وزودناه بكامل التجهيزات المطلوبة لمواجهتها، قبل أن تقضي على مساحات شاسعة من الاشجار عمرها عشرات لا بل مئات السنين؟”.

مقالع وكسارات

 

ويتوقف الخبير والناشط البيئي أبي راشد عند إنتشار المقالع والمرامل والكسارات والسدود التي تحتل 56 مليون م.م . من الأراضي، مناطق كانت خضراء ولم تعد، مضيفاً أنّه لدينا ملايين الامتار تحولت وستتحول إلى ضحية السدود، فمثلاً معظم المناطق الخضراء بين “سد جنة” و”سد بسري” دُمرت او ستدّمر ومساحتها هي 10 ملايين م. م. ، فضلاً عن بقية مشاريع السدود، وأيضاً مشاريع الطرقات ومشاريع البناء بكثافة، كل ذلك يحصل من دون دراسة أثر بيئي حقيقي .

 

وتابع مطلقاً الصرخة “stop” للتراجع الكبير للمساحات الخضراء في لبنان، والمباشرة بزيادتها، والسير باستراتجية إدارة مستدامة للأراضي، واضعاً ما يجري في دائرة “الإعتداء” على المناطق المحمية مثل “مرج بسري” والمصنفة من وزارة البيئة موقعاً طبيعياً، ومن الخطة الشاملة لترتيب الاراضي كـ “حديقة اقليمية”، وهذا مؤسف بالتأكيد.

 

 

مخاطر السدود

 

ويسأل أبي راشد ماذا عن تصريح أحد الوزراء بأنه سيكون هناك 50 الى 60 سداً ؟ فيما كل هذه السدود تقع في الوديان الخضراء والتي تشكل جزءاً كبيراً مما تبقى من مساحات لبنان الخضراء؛ مشدداً على أنّ الكثير من التجارب أثبتت أن حملات التشجير مكلفةٌ وصعبة، وهم يقنعون الناس بأنّهم سيعوضون الخسائر اللاحقة بالطبيعة بحملات التشجير، فيما هي لا تنجح بقدر ما نحمي منطقة معينة ونترك الطبيعة تقوم بإعادة تشجير نفسها بنفسها .

 

ويرى أنه وفي ظل درجات الحرارة المرتفعة التي نعاني منها، فإنّ قسماً من المياه سيتبخر، معتبراً أنّ أفضل سدّ وخزان هو الخزان الجوفي، داعياً إلى أن تكون الأولوية هي المحافظة على ما هو موجود في مواجهة ظاهرة التصحر .

 

ويوضحُ أبي راشد أن ظاهرة إختفاء المساحات الخضراء ستنعكس على مناخنا المحلي وعلى اقتصادنا “فبعد أن كان لبنان مقصداً للسياح العرب للتمتع بمميزاته الطبيعية من مناخ معتدل ومياه عذبة وهواء نقي، ها نحن نعاني من درجات الحرارة العالية ومعها الهواء الساخن والمشابهة لتلك المعروفة في دول الخليج، كما أنّ التصحر ينعكس سلباً على المياه الجوفية، فمع تراجع معدلات هطول الامطار، والاذى اللاحق بمياهنا الجوفية (نتيجة التصحر) فإنّ الاذى سيطال حتى تفاصيل حياتنا اليومية” .

 

بدوره يتحدثُ عميد كلية الزراعة السابق تيسير حمية عن أنّ تقارير الامم المتحدة تشيرُ إلى أنّ التصحر يؤدّي الى خسائر بقيمة 80 مليار دولار سنوياً في المحاصيل الزراعية، ويؤدّي الى زيادة اسعارها حول العالم، وقد بلغ إجمالي المساحات المتصحرة في العالم حوالي 46 مليون كم ²، نسبة العالم العربي منها 13 مليون كم²، أي بنسبة 28 %.

 

وإذ يعزو الوهن والضعف الذي تشكو منه البيئة إلى تعامل الانسان معها، أو للعوامل الطبيعية، يحذرُ من أنّ الأنشطة البشرية تلعب دوراً أساسياً في إنتشار هذه الظاهرة وبعض هذه الأنشطة تشترك فيها أكثرُ من منطقة وأحياناً تنفرد بها عن غيرها.

 

ويشرحُ حمية هذا الإنتشار:” تبرز في المناطق الجبلية العالية إحدى المشاكل الكبرى وهي الفقر، وتدني مستوى الخدمات، وإنحسار الاحراج والغابات بفعل القطع والحرائق، والمقالع والكسارات وسوء إدارة الاراضي الزراعية، وبعض الأراضي التي تحتوي الغاماً، إضافةً إلى الإستعمال العشوائي للمبيدات والاسمدة الزراعية”.

 

أمّا في المناطق الساحلية، فهناك تدنٍ لمستوى المعيشة والتوسع العمراني العشوائي والضغط السكاني (أي النزوح الى المدينة)، ونفايات المنشآت الصناعية، والاستغلال العشوائي لمصادر المياه.

 

عشوائية استعمال الأسمدة

 

وإنتقالاً إلى الجنوب والنبطية وعكار، يبرزُ الفقر وتدني مستوى الخدمات وسوء إدارة الاراضي الزراعية، والإستعمال العشوائي للأسمدة والمبيدات الزراعية، إضافةً الى الاستغلال المكثف للنباتات البرية للاستعمال التجاري؛ وصولاً إلى البقاع حيثُ تدني مستوى الخدمات والرعي الجائر والإفراط في استغلال الاراضي الزراعية، والاستعمال العشوائي للمبيدات والاسمدة، وسوء ادارة المياه وأساليب الري الخاطئة، والتوسع العمراني على حساب الاراضي الزراعية .

 

واللافتُ بروز مشكلة تتمثلُ بارتفاع معدل حرائق الغابات، والتي وصلت في إحدى السنوات الى 7618 حريقاً، وهذا من شأنه القضاء على المساحات الخضراء، وفق حمية . وفي ما يتعلق بالحلول يؤكد حمية أنها كثيرة ومتنوعة وباتَ من الضرورة المباشرة بها وأبرزها :

 

1 – إنشاءُ هيئة وطنية تضم مختلف الجهات والمؤسسات العاملة في إطار مكافحة التصحر، إضافةً الى الوزارات المعنية.

 

2 – التنسيق بين مختلف الوزارات ونقابة المهندسين للحدّ من الزحف العمراني ووضع ضوابط في تنفيذها .

 

3 – تطبيق الممارسات الزراعية التي تزيد من كفاءة النظم البيئية، والاقل استنزافاً للموارد الطبيعية المتجددة كالتربة والمياه مثلاً، إضافةً الى تطبيق تقانات الحصاد المائي واعتماد الري الصحيح والسليم ما يُسهم في تحسين إنتاجية الارض ونوعية المحصول .

 

4 – سنُّ القوانين التي تحدُّ من التعدي على المراعي الطبيعية، وإقامة محميات للرعي وصيانتها حتى تعود الى حالتها الطبيعية، وتفعيل الإطار التشريعي والقانوني وإعادة النظر في إستخدام الاراضي.

 

5 – إعتمادُ الإدارة السليمة للموارد المائية وللغابات، وتشجيع الزراعة المستدامة، وطبعاً إقامة المزيد من المحميات الطبيعية والمحافظةَ عليها .

 

6 – تنفيذُ الدراسات والبحوث بهدف إنشاء آليات الادارة المتكاملة وحُزمة التقانات الزراعية المثلى في المناطق الجافة المهددة بخطر التصحر، حيث تكون طرق الادارة قابلةً للتطبيق من الناحية الفنية، ومقبولةً إجتماعياً، وتتماشى مع مفهوم التنمية الزراعية المستدامة، ثُمّ اعادة تأهيل النظم البيئية الرعوية المتدهورة وتحسين عوامل ادارتها .

 

7 – تفعيلُ النوادي البيئية في المدارس الرسمية والخاصة، والعملُ على إدخال مادة “علوم البيئة”- وهي بدأت تدريجياً – في المنهج الرسمي، على أمل إستكمالها في كل مراحل التعليم وصولاً الى الجامعي.

 

8 – التوعيةُ البيئيةُ في ما يتعلق بالتصحر بالتنسيق مع البلديات ومؤسسات المجتمع المدني .

 

وفي سياق متصل، يبلغ المتوسط العالمي لحصة الفرد من المساحات الخضراء نحو 9 أمتار مربعة، ولكنه لا يتعدّى في بيروت 0.8 متر مربع، بحسب تقديرات “مشروع بيروت الأخضر”، الذي أُطلق في العام 2013، لكن تصريح وزير الزراعة حسن اللقيس في 30 نيسان الفائت في حفل غرس “الشجرة المليون”، الذي أقيم في القصر الجمهوري في بعبدا حملَ معهُ نفحةً من التفاؤل بقوله:”هذا الاحتفال هو محطةٌ على طريق برنامج زراعة الاربعين مليون شجرة الذي اطلقتهُ الوزارة، ويهدفُ الى زيادة الغطاء الحرجي من 13% الى 20% على 70000 هكتار من الاراضي العامة خلال 20 سنة، لافتاً إلى أن “الوزارة تقوم بدورها في اطار تطبيق قانون الغابات ومكافحة آفات شجرة الصنوبر”.

 

وفي الختام، وبالرغم من وجود 15 محمية طبيعية في لبنان، فإن ذلكَ لا يعفيه من واقع أخضر مؤلم، فالمساحةُ الخضراءُ آخذة في الإنحسار بفعل أخطار شتّى، ليسَ آخرها الغزو العمراني والحرائق والصيد العشوائي والتغيُّرات المناخية؛ المساحة الضئيلة هذه تضاعفُ الحاجة الى التمسك بجزر طبيعية تساهمُ في الحفاظ على التوازن البيئي لتعزيز منسوب الغطاء الاخضر الذي تتوزعُ عليه هذه المحميات بحريةً كانت أم بريةً بمساحات متفاوتة، ما يبرر سعي أكثر من جمعية بيئية إلى إدراج أكثر من موقع بيئي ضمن المحميات الى تلك المسجلة في وزارة البيئة منها “البقبوق” و”عدلون” و”محمية زبقين” .