انشغل العالم في الاسابيع الفائتة بفضائح «أوراق بناما»، أي فضائح الجنات الضريبية التي تساهم من جهة بالتهرب الضريبي وتأمين ملاذات للاموال غير الشرعية الناجمة عن الفساد والرشى والعمولات وتجارة المخدرات والاسلحة والحسومات النفطية… وتساهم من جهة أخرى، بالتخفيف من مستوى الضريبة على كبار الشركات والمصارف العالمية عبر هندسات مالية وضريبية.
حملت «أوراق بناما» بُعدا سياسيا، اذ طالت محيطين بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين ومسؤولين في الصين والبرازيل وايسلندا وبريطانيا ورؤساء وملوكا عربا، كما حملت بعدا ماليا، اذ أضاءت على التهرب الضريبي الذي يتسبب بخسارة الولايات المتحدة سنويا حوالي 700 مليار دولار والاتحاد الاوروبي حوالي 1000 مليار يورو.
تعتبر الجنات الضريبية (حوالي 100 أبرزها في الولايات المتحدة الاميركية Delaware) حلقة ضعف في النظام المالي العالمي، إذ إنها تخرج عن الرقابة والانتظام المالي العالمي وتتسبب بتقلبات حادة في الاسواق المالية العالمية لانها تدير رساميل بقيمة 5000 مليار دولار 20 % من مصادرها محظورة اي 1000 مليار دولار، و80 % من مصادرها غيـــر محظـــورة اي 4000 مليــــار دولار.
(صناديق التحوط Hedge fund، صناديق التقاعد..)
يوجد دوليا صعوبة في تعريف الجنة الضريبية، ولكن في المقابل، يوجد توافق على ميزاتها التالية:
ـ مستوى متدن أو عدم وجود للضرائب (لا ضرائب على المداخيل والثروة والاصول)
ـ سرية مصرفية مطلقة
ـ لا تبادل للمعلومات الضريبية مع الدول الاخرى، كما ان التعاون القضائي مع الخارج محدود.
ـ تسهيلات في تأسيس الشركات لا سيما شركات الـ «اوفشور» (اخفاء هوية المالكين الحقيقيين لشراء الممتلكات أو لفتح حسابات، استخدام اسماء وهمية لتبييض الاموال والمخدرات، اضافة الى طابع السرية في المعاملات، كما انها تساهم في تسهيل تطوير التجارة العالمية).
ـ شركة الـ «اوفشور» هي من الشركات المساهمة المسجلة في بلد لا يكون المالك مقيما فيه، كما انها لا تمارس اي نشاط اقتصادي في البلد الذي تتخذه مقرا لها.
ـ مرونة وضعف الرقابة للعمليات المصرفية والمالية (فتح الحسابات، تحويلات، مدفوعات…).
أما لبنان، فقد أشارت احدى الصحف الدولية إلى انه مهدد في الاشهر المقبلة بوضعه على اللائحة السوداء للجنات الضريبية غير المتعاونة، لأنه لا يحترم بشكل كامل نوعية تبادل المعلومات عند الطلب، ولم يوقع على معاهدة تبادل الاستعلامات وفق معايير منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، ولم يتعهد بالانتقال الى تبادل المعلومات تلقائيا في العام 2018.
ولكن في الوقائع، لا يمكن اعتبار لبنان جنة ضريبية للأسباب التالية:
ـ مستوى الضرائب مقبول وليس متدنيا: الضريبة على أرباح الشركات والتوزيع 23.5 %، على فوائد الودائع 5 % … يصل العبء الضريبي في لبنان الى 18 %.
ـ السرية المصرفية غير مطلقة وترفع فورا أمام الشبهات والشكوك بعمليات التبييض المالي، اضافة الى ان لبنان يطبق قانون فاتكا (FATCA).
ـ إقرار مجلس النواب مؤخرا قانون تبادل المعلومات الضريبية مع الخارج وآخر للتصريح عن الاموال المنقولة عبر الحدود.
ـ العمليات المصرفية مقيدّة وتحت الرقابة الداخلية للمصارف (دائرة الامتثال) لا سيما في عمليات فتح الحسابات والتحويلات، اضافة الى ان مصرف لبنان يصدر دوريا تعاميم منسجمة مع التشريعات الدولية وآخرها الطلب من المصارف التوقف عن فتح الحسابات لشركات اسهمها لحامله ووقف العمل بالبطاقات المسبقة الدفع.
ـ اخضاع حسابات شركات الـ «اوفشور» لمفوض مراقب اضافة الى تسجيلها في الدوائر الضريبية.
ـ اخضاع شركات الـ «اوفشور» في لبنان الى ضريبة سنوية مقطوعة قيمتها مليون ليرة، كما تخضع للضريبة فوائد وعائدات وايرادات الحسابات الدائنة.
في المحصلة، لبنان ليس جنة ضريبية وفق المعايير الدولية إذ إنه يلتزم بالتشريعات التي تحد من التهرب الضريبي، وتكافح تبييض الأموال وتمويل الارهاب، وتراقب عن كثب نشاط القطاع المصرفي. كذلك من المستبعد وضع لبنان في الأشهر المقبلة على لائحة الدول غير المتعاونة.
(&) خبير اقتصادي ومالي