Site icon IMLebanon

لبنان مهدد بسبب رفض الشراكة

لا يسوغ الكلام في ذكرى السادسة والتسعين على تأسيس دولة لبنان الكبير بلا الكلام على الفلسفة الميثاقيّة، وقد نشأت من التكوين الطائفيّ للبنان، وكلّ تكوين للبنان صغيرًا كان أو كبيرًا، ما كان له أن يكون إلاّ بالمضمون الطائفيّ والمذهبيّ. ليس التكوين اللبنانيّ الطائفيّ فريدًا في بداءته، بل المشرق العربيّ، وبخاصّة دول برّ الشّام أو ما سمي بالهلال الخصيب إنما بالوجود الدينيّ والطائفيّ، بمعنى أن المثال اللبنانيّ ما كان ليزدهي ببهاء كبير، إلاّ بالفكر التوليفيّ الجامع والذي قاده مفكرون كبار تأثروا بالجوهر وانطلقوا منه ساعين نحو أنموذج ميثاقيّ راق، من أمثال هؤلاء ميشال شيحا، كاظم الصلح رياض الصلح بشارة الخوري يوسف السودا… انطلق الفكر التوليفيّ كخصوصيّة مركّبة ومتوازنة ردًّا على كلام ساقه في حينه الصحافيّ الفراكفونيّ جورج نقاش أن نفيان لا يولفّان أمّة واحدة «  Deux negations ne font pas une nation».

لماذا تفوّه نقّاش منذ ذلك التاريخ بهذه العبارة الشهيرة؟ ليس الكلام هنا في نيات الرجل مهما كانت أو بدوافع قيل انها متورطة في أفلاك مختلفة. تلك العبارة جاءت في مضمونها مجسّدة هاجسًا ظلّ مهيمنًا على العقل اللبنانيّ والمشرقيّ بصورة عامّة بحسب اوساط سياسية مخضرمة، لحقبات طويلة من الزمن، ما لبثت أن ترسّخت أكثر بسبب عدم تكريس صيغ تشاركيّة بين المسيحيين والمسلمين في أكثريّة البلدان القائمة على التنوّع وتدوين المشاركة بصيغ دستوريّة ضامنة وناظمة. لقد تأسّس لبنان الكبير على نقيضين وتشعبا نحو مجموعة نقائض تراكمت فانفجرت بعوامل خارجيّة استهلكت الداخل وامتصته امتصاصًا شديدًا حتى تمزّق أكثر من مرّة.

لقد قرأ مؤسسو الميثاق الوطنيّ والفلسفة الميثاقيّة بفكر نيّر واستقراء حصيف ورؤى مستنيرة تلك الإطلالات السلبيّة لمعنى النقيضين. فلبنان الصغير عانى من مذابح كثيرة تضيف الاوساط، امتدّت حتى دمشق، فما الذي يضمن أن يكون لبنان الكبير بمنأى عنها، إذا ما وقع لبنان من جديد في وسط تنازع دوليّ وإقليميّ؟ وقد كان هذا قائمًا بالفعل بين لجنتين واحدة سميت بكينغ كراين كشفت رفض الشعوب المشرقيّة لانبثاث دولة يهوديّة في الوسط العربيّ المسيحيّ-الإسلاميّ، وأخرى مع فرانسوا جورج بيكو ومارك سايكس، كانت تعد الخريطة التكوينيّة الجديدة للمنطقة التي كرست في قمة يالطا بعد الحرب العالميّة الثانية وكانت التوطئة الفعليّة لنشوء دولة إسرائيل طبقًا لوعد بلفور و«جهاد» تيودور هيرتسل. لبنان في الحقيقة كان في هذا الوسط، وكان يعد لانفجار جديد. آباء الميثاقي قرأوا ذلك بعمق ورأوا الدعوات الانضماميّة نحو الغرب، وقد تجسدت في المعاهدة اللبنانيّة-الفرنسيّة سنة 1936، ثمّ في مؤتمر الساحل في مرحلتيه أي سنة 1932 و1936، محطات ستؤسس لمرحلة الانفجارات.

الحالة التوليفيّة في الفلسفة الميثاقيّة شاءت وضع أسس قائمة على عقد اجتماعيّ وسياسيّ جامع بين المسيحيين والمسلمين، ترجم في دستور 1926، وقد استفادت منه على حسب قراءة المسلمين المارونيّة السياسيّة، وهي طائفيّة سياسيّة تأسّست بعد انفجار الواقع الفلسطينيّ في الداخل اللبنانيّ، ونمت بصورة واضحة بفعل الصراع بين حلف بغداد والناصريّة في حقبة الخمسينات من القرن المنصرم، وتضخّمت بعد ذلك خلال الأحداث اللبنانية في سنة 1975، وتوضّحت معالمها أكثر مع قول إسلاميّ إن منطمة التحرير الفلسطينيّة أي فتح هي جيش المسلمين في لبنان. الاستفادة وبحسب توصيف المسلمين وزعمهم أبطلت عمق الفلسفة، وفي التوصيف المسيحيّ كان ثمّة من رأى أن المسلمين رافضون للمشاركة والفلسفة الميثاقية قامت على المشاركة بتجلياتها وآفاقها الواسعة.

 جاء تدمير المارونيّة السياسيّة بتمزيق جوفها إربًا إربًا، لم تولد في اساسها كفعل بل كردّة فعل على حالة تراكمت وتشعبت وكادت تهدّد لبنان بتهديدها الفرادة المسيحيّة كمساحة ضامنة لمسيحيي الشرق وبقائهم بحسب الاوساط نفسها، ولا يزال لبنان مهدّدًا بتلك الخصوصيّة الساطعة. لقد أكد تراصف الأحداث على أرض لبنان، في ظلّ التغييرات الجيو-سياسيّة الكبرى، هشاشة الأنظومة السياسيّة اللبنانيّة غير المتينة. والسبب أنّ المنطلقات التاسيسيّة للبنان الكبير خلت من التجليّات الوطنيّة. لقد دلّت التجربة أو مجموعة التجارب التي مرّ بها الوطن الصغير، على أنّ ما لا يؤسّسه أهل البلد بتوافقهم وائتلافهم، بانسجامهم ووحدتهم، بتكاملهم وووجودهم ضمن منطق التكامل، يبقى مثقوبًا ومعطوبًا ومأخوذًا إلى غير خاصّته. لم يتأسّس لبنان على خاصيّة وخصوصيّة جامعة، بل على طائفيّات سياسيّة ممدودة على جراح مثخنة ومعدودة لتبقى ألغامًا لحروب تنفجر تباعًا. تجربة الحروب والثورات الداخليّة تفجّرت بتلك الألغام، والأزمة الكيانيّة والميثاقيّة والتي تحوّلت إلى أزمة وجود وكيان وليس فقط أزمة حكم، جاءت من خصوصيّة تدمير الطائفيّة المارونيّة بلا بدائل وطنيّة، فحلّت مكانها السنيّة السياسيّة، التي ما كان لها القدرة على النشوء في لبنان بهذا التوثّب وبتلك القفزات لولا ذلك التحالف المتين بين الغرب والأميركيّ والأوروبيّ والخليج النفطيّ، وقد كان اتفاق الطائف إحدى ثماره مما جعل لبنان مكرّسًا لسيرورة السنيّة السياسيّة كطائفة قائدة تسير على جنباتها طائفيتان رتبت مصالحها على استبقاء مسيحيي لبنان مهيضي الجناح.

ومن نوافل القول هنا الاعتبار أنّ واقعيّة الأحداث بتداعياتها الخطرة ليس في لبنان بل في المشرق العربيّ ولبنان جزء من أنظومته الواسعة والمتحركة، على حدّ قول الاوساط السياسية المخضرمة أثبتت مقولة جور نقاش منذ أكثر من تسعين سنة بأن نفيين لا يؤلّفان امّة واحدة. الفلسفة الميثاقيّة بتجلياتها عقد بين نفيين، وقد حاول آباء الميثاق الوطنيّ، أخذ المسيحيين والمسلمين إلى رباط واحد واسع منطلق من حالة تكوينيّة جوهريّة قادرة على صناعة ذات واحدة وليس ذاتيات مختلفة ومتضاربة، بفكر واحد، وعقد واحد، وهم على حقّ في تدوين ذلك ضمن سياق وطنيّ شامل. وأدخل ميشال شيحا كدعامة حامية للبنان المنطلقات الميثاقيّة إلى قلب الدستور، فجعلها الجوهر حيث بات الدستور وليدها وليست هي وليدته، واستكمل ذلك في دستور الطائف مع الرئيس حسين الحسيني إبن الميثاق، أو إبن الفلسفة الميثاقيّة، فقال إن «لا شرعيّة لسلطة تناقض ميثاق العيش المشترك». وعلى الرغم من محاولات التمتين خشية تسلل إسرائيل في تفاصيلنا بالمفردات الطائفيّة بهيكلياتها السياسيّة، وتلك كانت في الأساس رؤية شيحا ورياض الصلح وبشارة الخوري وكاظم الصلح، واستكملت مع مجموعة مفكرة في حقبة الخمسينات ضمن تجليات الندوة اللبنانيّة مع ميشال اسمر وفيها المطران جورج خضر والأب يواكيم مبارك والمطران غريغوار حدّاد والإمام موسى الصدر والشيخ صبحي الصالح والرئيس حسين الحسيني والدكتور حسن صعب والنائب بيار حلو والمحامي البير لحام والوزير السابق فؤاد بطرس وغسان تويني وتقي الدين ومنح الصلح… استطاعت إسرائيل فرض هيمنتها بأن أوجدت مناخًا سالبًا منّا الحقيقة الميثاقيّة ومحطّمًا القدرة على وثبات مضيئة وتجسيديّة تملك القدرة على ترسيخ الفلسفة الميثاقيّة بمشاريع قوانين انتخابيّة تتزاوج فيها المناصفة والنسبيّة، وتؤكّد وحدة لبنان، فتؤدّي تلك المنطلقات إلى انبلاج فجر إلغاء الطائفيّة السياسيّة تنفيذًا للمادة 95 من الدستور.

لقد بات لزامًا الاعتراف بأنّ عيب لبنان ليس في هذا النظام، المشرق العربيّ كلّه منحوت بالإزميل الطائفيّ، كلّ دوله بأنظمتها وإن تغلّفت بالشكل بالأطر العلمانيّة إنّما هي دول طائفيّة تأسّست على وجود مسيحيّ-إسلاميّ، وعلى تنوّع مذهبيّ. تصاعد الحركات الأصولية وتحوّلها إلى حركات ومنظمات تكفيريّة في المنطقة يعزّز أكثر فأكثر الشعور الطائفيّ عند الجميع ويؤججه تؤكد الاوساط، ويؤكد على السعي الإسرائيليّ بخلق مناخ دائم من النقائض (العودة إلى مقولة جورج نقاش) والتصادم والخشية والريبة لتبقى منطقة الشرق الأوسط دائمة الالتهاب والاشتعال، أو احيانًا يشتعل لبنان كشرق أوسط صغير بالنيابة عن المنطقة. الحرب في سوريا وفي العراق وعليهما تؤكّدان الواقع الكائن والمكنون في صلب التكوين المذهبيّ والطائفيّ، كما أنّ الحلول المطروحة في كلّ من سوريا والعراق وبعد الحسم الميدانيّ ستأخذ في الحسبان المعطى بل المحتوى الطائفيّ والمذهبيّ لسوريا والعراق. والارتجاج الذي يعيشه لبنان حاليًا يشي الى أننا أمام انفجار سياسيّ طائفيّ خطر سببه أنّ السنيّة السياسيّة ممعنة في رفض منطق «الشراكة»، كفكر آحاديّ ساع لتطويق المسيحيين، وتطويق الشيعة لكون الشعور الغالب من المسيحيين متضامن مع سعيهم في قتال القوى التكفيريّة في سوريا. السنيّة السياسيّة برموزها الحاليين رافضة لمنطق «الشراكة».

الفلسفة الميثاقيّة عقد وعهد بين طائفتين، العقد والعهد يحتاجان ليكونا متوازنين في التطلّع والمحتوى. السؤال المطروح: هل لبنان قادر على الاستمرار بصيغته الحاليّة أو أنّنا أمام حقبة تكوينيّة جديدة في منطقة ستشهد محطات تقوم على دساتير جديدة لها؟

لعد ستّ وتسعين سنة يجدر بأبناء لبنان أن يفكروا فعليًّا بتجاربهم المتنوعة تقول الاوساط، ويسعوا لقراءتها بتؤدة وبعدم خفّة، وعدم الارتكاز إلى مقوّمات تسووية يصنعها الآخرون أو تصنعها طبيعة الأحداث في المنطقة والمصالح، وإن على حساب ديمومة لبنان الدولة والوطن. فمعظم ما كتب في الخارج ظلّ ملكه وهو قادر على التحكّم بمصيرنا وتحديده ضمن مشيئته، في الحرب والسلم. فالطائف تأسس على تسوية اميركية – سوريّة – سعوديّة، ولم يتأسس على محاكاة لبنانيّة ذاتية تقود إلى توافق دائم، وتسوية الدوحة تأسست ايضًا على توافق سوريّ – سعوديّ – قطريّ أفضت إلى نتيجة تهدويّة ولكنّها على المستوى السياسيّ والوجوديّ كارثيّة. فما هو مصير التوافقات المرسومة بتسويات واقعية بين تلك الدول وفي ظلّ الصراع الناشئ فيما بينها؟

في الزمن الذي يرتقب كثيرون حالة تكوينيّة جديدة، بات لزامًا على اللبنانيين استيلاد الفلسفة الميثاقيّة وتنقيتها برأي الاوساط من الشوائب ضمن مؤتمر تأسيسيّ وتكوينيّ وليس تسوويًّا يجيب فيه اللبنانيون عن الأسئلة الواردة:

1-أيّ وطن نريد لنا ولأولادنا؟

2- أيّ نظام نريد وما هو محتواه القانونيّ والمؤسساتيّ وما هي هيكليته؟

3- كيف يمكن التأكيد على الميثاقية الرابطة بين الطوائف اللبنانيّة، كمنطلق لإلغاء الطائفيّة السياسيّة وترسيخ دولة المواطنة؟ لكي نملك القدرة  على الخروج من فلسفة النفيّات إلى منطق التكامل الوجوديّ والوطنيّ الكامل.

الأسئلة جديرة بالتأمل، والمثال اللبنانيّ وحتى لا ينعدم بالمطلق والواقع يجيء من الأجوبة لتكون الفلسفة الميثاقيّة بفرادتها آلية للحل ليس في لبنان فحسب بل في محيطه المشرقيّ.