في قراءة للمشهد العسكري – الأمني القائم عند الحدود اللبنانيّة الجنوبيّة، هذه الأيام، في ضوء التقديرات الاستخبارية الإسرائيليّة، من الضروري التمييز بين حصول «مواجهة ما» وبين «التدحرج» نحو حرب. خلاصة تقدير العدو أننا أمام «احتمال». عموماً، وهذا حاضر في تقديراته دائماً، إنّ ما كبحه في الماضي لا يزال يكبحه اليوم
عدم استبعاد رئيس الاستخبارات العسكرية، اللواء تامير هايمن، إمكانية أن تؤدي «ديناميكية التطورات» على الجبهة الشمالية إلى نشوب حرب، لا يعني أننا أمام سيناريو حتمي، بل ولا حتى ترجيحاً بالضرورة. ومع ذلك، يكشف هذا التقدير عن قراءة إسرائيلية لمسار التطورات في المنطقة، والخيارات الماثلة أمام صانع القرار السياسي والأمني هناك، خاصة بعد فشل رهاناته في سوريا ولبنان، لنكون أمام «احتمال» التدحرج نحو مواجهة عسكرية ما. ومنعاً للالتباس، تتجاوز دائرة التقدير المذكور مفاعيل ما سمّته إسرائيل عملية «الدرع الشمالي»، التي أطلقتها بعد إعلانها اكتشاف نفق ما… مع الإشارة إلى أن ساحة تحرك تلك العملية، حتى الآن، هي الأراضي الفلسطينية المحتلة حصراً.
حول ذلك ينبغي تسجيل العديد من الملاحظات، للإضاءة على مضمون تقدير اللواء هايمن، الذي يتناول رؤية الاستخبارات العسكرية الاسرائيلية إزاء مستقبل الوضع مع لبنان والمقاومة، ومناسبته، إضافة إلى سياقاته الإقليمية. ورد هذا التقدير أمام لجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست، التي عادة ما تكون الشهادات عندها سرية، إذ يمثل أمامها كبار القادة الإسرائيليين، مثل رئيس الوزراء ووزير الأمن ورئيس الاستخبارات العسكرية ورئيس قسم البحوث، إضافة إلى كلّ من رئيس «الموساد» و«الشاباك»، حيث يُقدِّمون تقاريرهم وتقديراتهم للتهديدات والفرص التي تنطوي عليها البيئة الإقليمية… وقد يُسرَّب، أحياناً، بعض ما يرد فيها، إما بنحو مدروس وهادف، أو بفعل الثرثرة التي يتّسم بها العديد من المسؤولين الإسرائيليين.
ينبغي عدم توهم وجود تضارب بين استبعاد رئيس الاستخبارات العسكري («أمان») نشوب حرب ابتدائية، وعدم استبعاده إمكانية أن تؤدي «ديناميكية التطورات» نحو مواجهة عسكرية، وصولاً إلى حرب. المقصود بالأولى استبعاد أن يبادر أحد الأطراف العربية والإقليمية إلى شنّ حرب على إسرائيل في المدى المنظور، وهو أمر مفهوم في ظل الظروف السياسية الإقليمية والعربية، الحالية، فضلاً عن موازين القوى… وبالتالي، إن هذا الاستبعاد أقرب إلى توصيف واقع أكثر من كونه تعبيراً عن تقدير لخيار غامض ومفتوح على عدة احتمالات. في المقابل، المقصود بأن تؤدي «ديناميكية التطورات» إلى حرب، أن يؤدي حادث موضعي محدَّد إلى ردود متبادلة، وصولاً إلى التصعيد العسكري بما فيها الحرب.
ليست المرة الاولى التي تقدِّر فيها الاستخبارات الإسرائيليّة إمكانية أن تؤدي «ديناميكية التطورات» إلى نشوب حرب. فمع نهاية السنة الماضية، تحدثت هذه الاستخبارات عن ارتفاع إمكانية نشوب مواجهة عسكرية على الجبهة الشمالية، بالقياس إلى ما كانت عليه في السنوات السابقة. ومع أنّ هذه المواجهة لم تقع بالمستوى الذي أشارت إليه، إنما تبين، في أكثر من محطة، أن هذا الاحتمال كان وارداً فعلاً، وبالتالي كان لهذا التقدير أسسه الواقعية. فضلاً عمّا سلف، فإن ذلك أيضاً لم يتحقق لأسباب مفهومة تتعلق بمعادلات الردع. كانت «ليلة الصواريخ» من أبرز المحطات التي ارتفعت معها تلك الإمكانية، في العاشر من أيار الماضي، التي جاءت رداً على الاعتداء الإسرائيلي على مطار «تيفور» في العاشر من نيسان الماضي. في حينه، كشف الأمين العام لحزب السيد حسن نصر الله، عن التهديد الذي وُجِّه إلى إسرائيل، في حال تنفيذها التهديدات التي توعدت بها قبل الرد الصاروخي في الجولان.
من ضمن ما تعنيه «ديناميكية التطورات» ومفاعيلها، كما ورد في التقدير الاستخباراتي الإسرائيلي، أن يدفع تطور محدّد إلى مبادرة أحد الأطراف لاستهداف الطرف الآخر، أو أن تؤدي مبادرة عملانية لأحد الأطراف إلى رد من قبل الطرف الآخر، بما يوصل إلى «التدحرج». يعني أن تبادر إسرائيل، في مثل هذه الحالة، إلى تنفيذ اعتداء مدروس، بالاستناد إلى تقدير خاطئ حول ردٍّ الطرف الآخر، في أصله وحجمه وأسلوبه وساحته، بما يدفع إلى ردٍّ مضاد، وهكذا.
أما عن الأسباب التي قد تدفع إسرائيل نحو خطوة كهذه، فهي عديدة، من ضمنها فشل رهاناتها في الساحة السورية، التي هدفت إلى محاولة إنتاج بيئة إقليمية توفر لإسرائيل حزام أمن إقليمي يُعزز أمنها القومي، ويفرض هيمنتها على المنطقة. كذلك أيضاً نتيجة فشل مساعيها للحؤول دون تعاظم محور المقاومة، الذي يعزز قدرة الردع الإقليمي، بما يقيد دورها الوظيفي العدواني. لا يتعارض هذا التقييم إزاء الفشل الإسرائيلي الذي يكشفه، أيضاً، الصراخ والتهويل الإسرائيليان المتواصلان، والاستغاثة بالولايات المتحدة ومحاولة الاستعانة بروسيا لقطع الطريق على هذا المسار… مع كون تل أبيب حققت بعض الإنجازات التكتيكية هنا أو هناك، بفعل اعتداءاتها على الساحة السورية، لكنها عموماً تبقى تفاصيل في معركة الجاهزية وتكريس انتصار محور المقاومة على الإرهاب والمخطط الأميركي في المنطقة.
إذاً، الحديث عن ارتفاع إمكانية نشوب حرب، يُقصد به ارتفاع الاحتمال بالنسبة إلى ما كان عليه سابقاً. هو تقدير يستند إلى قراءة إسرائيلية لمسار التطورات الإقليمية، وللخيارات التي تدرسها إسرائيل، ومع ذلك، فإن الحديث عن هذه الإمكانية ينطوي على أكثر من بعد. فعلى المستوى النظري، يمكن أن ينطوي أي حدث محدود، وفي أي ساحة، على إمكانية تطوره باتجاه مواجهة أوسع، لكن النتيجة هنا لا تكون حتمية، بل إن هناك الكثير من الكوابح التي قد تمنع – ومنعت في المرحلة السابقة – العدو عن هذا السيناريو.
يُشار إلى أن حصول مواجهة عسكرية نتيجة تدحرج ما بعد اعتداء اسرائيلي موضعي، لا يعني بالضرورة أن تتطور باتجاه نشوب حرب، بل قد تشهد الساحة مواجهة عسكرية ما، تكون عبارة عن جولة قتالية لأيام معدودة متفاوتة الشدة. فإذا كان الطرفان معنيين بمنع نشوب حرب، حتى لو وقعت مواجهة ما، فلن تتطور ولن تنشب حرب. الحالات التي امتدت فيها بعض المواجهات، إنما كانت نتيجة أن الطرفين كانا يريدان وقف النار، لكن بشروط يرفضها الآخر… وفي هذه الحالة لا ينطبق التدحرج المقصود في ما سلف، وإلا تصبح كل الحروب تدحرجاً… وهذا خلاف المقصود.
لا تستبعد استخبارات العدو «إمكانية» نشوب حرب، لكن هذا لا يعني بالضرورة ترجيحاً لها
في هذه المسألة، تنبع مشكلة العدو من إدراكه أن أي اعتداء عسكري على الساحة اللبنانية سيجرّ، حتماً، رداً رادعاً. وعندما يُحكى عن رد رادع إنما يُقصد به دفع قيادة العدو إلى اكتشاف خطأ التقديرات التي استند إليها، ومن أجل ذلك ينبغي أن يتجاوز الرد في حجمه ومداه رهانات العدو. وبتعبير آخر، يهدف ردّ المقاومة إلى منع العدو من شنّ حرب متقطعة وبالتقسيط على لبنان، من دون أثمان مؤلمة جداً في أمنه وخسائره. كذلك يمكن التقدير أن إدراك العدو لهذه الحقيقة هو الذي حال، حتى الآن، دون اتخاذه قرارات بمغامرات عسكرية طوال السنوات الماضية، وتحديداً منذ بدء الأحداث السورية عام 2011.
أخيراً، لمزيد من الوضوح، ليس أمام لبنان والمقاومة إلا أن يردّا على أي اعتداء إسرائيلي محدود، منذ البداية، كم لو أنه ردّ على الاعتداء العاشر وما بعده، بهدف منع استمرار الاعتداءات الإسرائيلية منذ ما بعد الردّ الأول… وصولاً إلى الاعتداء العاشر وما بعده.