بالرّغم من كلّ العقد والتعقيد والأزمات والمأزومين والمؤزمين، لا يوجد بلدٌ في العالم فيه هذا الكمّ من التعطيل السياسي يستمرّ شعبه في العيش برغم أنف الجميع مظهر الحياة والبهجة هذا ميزة لبنانيّة فريدة من الصعب أن تجدها في مكان آخر، نظرة على عشرات المهرجانات التي تضيء ليل المدن والبلدات اللبنانية تكفي لنفهم أنّ روح الحياة لا تموت في هذا البلد مهما اغلقوا في وجهه أبواب الأمل.
الصيف اللبناني حافل، مشهد المهرجانات يُذكّرنا بلبنان العام 1991 الخارج من الحرب الأهليّة باقتصادٍ يلفظ أنفاسه ودمارٍ يخيّم على قلب بيروت والمناطق اللبنانية من الشمال إلى الجنوب، حفل صيف العام 1991 بالمهرجانات التي بثّت الروح في شرايين الجسد اللبناني الميّت، بالرغم من العتمة كانت القرى تتلألأ بأنوار المولدات الكهربائيّة وأصوات الموسيقى حتى أصبح لكلّ قرية مهرجانها، لم يستسلم اللبنانيّون يوماً للإحساس بالعجز والانهيار والاختناق بالأزمات، لطالما اخترعوا حلولاً لأزماتهم وتعايشوا معها، وتخطوها.
صيف لبنان وإن كان يفتقد حضور السيّاح العرب، إلا أنّه يتميّز بالسياحة الداخليّة لأبنائه، هذه المهرجانات جميعها حضورها لبناني صرف يصفّقون، يغنون، يرقصون، لا يستسلمون لمظاهر التعقيد والأزمات، هذا الشعب ومهما «طبّلت» فوق رأسه فإنّه «يُزمّر» لها.. هو صورة حيّة عن حيويّة الحياة، كانت الصواريخ تتساقط فوق رؤوسنا تدمّر المباني والشوارع ونحن قابعون في الملاجىء نتجمع ونغنّي «راجع يتعمّر لبنان»، هذا مشهد حقيقي حيّ شهدته في ملجأ المبنى الذي نقطنه.
يكاد البعض يقول لنا، هذه البلاد لا مستقبل لها ولا بها نكاد نقول ذلك، ما دام «المستقبل هو للمقاومة ومحور المقاومة»، وهذه المنطقة لا أمل لها ولا أمل بها، قد يكون هذا الكلام صحيحاً، وينطبق على المنطقة ولكنّه لا ينطبق على لبنان، روح المنطقة في لبنان، وسرّ لبنان في شعبه، صحيح أننا شعب «نقّاق» لكنّ هذه الصفة متوائمة مع صفة أخرى أننا شعب «عيِّش»، وقادر على اجتراح المعجزات بإصراره على الاستمرار في الحياة، شعب يتعب وهذا أمر طبيعي ولكنّه لا يستقيل من الحياة.
وجه لبنان الحقيقي الذي يبعث على التفاؤل والأمل والإصرار نجده كيف التفتنا من الأرز إلى بعلبك إلى صور إلى بيروت إلى أميون إلى طرابلس وإهدن وزحلة، وهناك أكثر بكثير بعد، في لبنان اليأس ممنوع، هذا الدرس يعلّمنا إياه لبنان كلّ يوم ألف مرّة ومرّة.. ما هو الجديد الذي نشهده اليوم، ألم يسبق وعاينّا كل هذه العقد والتعطيل وخرجنا منها، إلتفتوا صوب لبنان المهرجانات والحياة والفنّ، هل هناك بلد واحد في العالم تدور المعارك من حوله فيما هو يضجّ بالفرح والحياة؟ ألم نكن هكذا طوال فترات الحروب التي عصفت بنا، ولم نيأس؟
شكراً، لصانعي الفرح اللبناني العظيم بالرّغم من الأزمات التي تحاصرنا، شكراً للذين يبذلون جهوداً جبّارة ويقدّمون للعالم صورة لبنان الحقيقيّة، وصورة شعبه بعزمه وإصراره وتمسّكه بالحياة والفرح والنّور، هذا الشعب يكره الظلم والظلمات، شعب يعرف كيف يضيء لياليه بالفرح والأنوار في عزّ العتمة، هو وطن ينفخ الروح في بنيه فيصرّون على البقاء والاستمرار وأن تضجّ فيهم وفي ربوعهم كلّ معالم الحياة وهي أهم روافد المقاومة في العقليّة اللبنانيّة.