اللبنانيون يحبون بعضم كثيراً. من أيام فخر الدين المعني الكبير في القرن السابع عشر إلى الرئيس القوي في القرن الواحد والعشرين، وهم يتبادلون الحب. لندع التحولات الديموغرافية وتغيير الدين والتهجير، أيام المعنيين والشهابيين، جانباً، فقد مر زمن طويل على تلك الأيام، حين كان للسلطنة العثمانية دور كبير في التطهير المذهبي، ولنستعرض ما حدث خلال الحرب الأهلية وما يحصل اليوم. في السبعينات تحول لبنان إلى كانتونات متحاربة، ومورس التطهير الطائفي بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، عدا منطقة واحدة هي رأس بيروت وبعض القرى في الجنوب والبقاع. وكان «اليمين» يرفع شعار التقسيم ويعمل لتطبيقه بالتعاون مع إسرائيل، قبل الغزو وبعده، متخذاً من نظام القائمقاميتين (الفيديرالية) سنداً تاريخياً، وهو نظام أوجده العثمانيون في القرن التاسع عشر لوضع حد للحرب الأهلية بين الدروز والمسيحيين ولإرضاء الدول الأوروبية التي كانت تطالب بكيان للمسيحيين مقابل كيان للمسلمين.
حتى نظام القائمقاميتين، لم تستطع الحروب الأهلية المتتالية والتطهير الطائفي والمذهبي تقسيم هذا البلد الصغير الذي عاد الفرنسيون إلى إعلانه «كبيراً» في عشرينات القرن الماضي. لكن اللبنانيين لم يستوعبوا هذا الدرس التاريخي لأسباب كثيرة أهمها أن لكل طائفة امتدادها الخارجي وتتأثر به، وبما يدور في المحيط، خصوصاً في سورية. ولأن المسيحيين كانوا مضطهدين وليست لديهم دولة تدعمهم في الجوار اختاروا اللجوء إلى الدول الأوروبية التي لم تكن لتنجدهم إلا حين ترى مصلحة لها في ذلك، وليس حباً بهم. ولطمأنتهم في القرن التاسع عشر فرض الأوروبيون على إسطنبول أن يكون القائمقام مسيحياً من رعايا السلطنة وليس لبنانياً. هذه باختصار شديد الخلفية التاريخية للخلافات والحروب الأهلية اللبنانية. هي تاريخية بالمعنى الزمني لكنها ما زالت حاضرة إلى اليوم، على رغم «التقدم والحداثة» الظاهرين في الشوارع.
بعد الاستقلال عن فرنسا عام 1943 اتفق الزعماء اللبنانيون على أن يكون رئيس الجمهورية مسيحياً مارونياً ورئيس الحكومة مسلماً سنياً ورئيس البرلمان مسلماً شيعياً. هذا الاتفاق «الميثاق» الذي وضعت أسسه السلطنة العثمانية في القرن التاسع عشر ما زال سارياً حتى اليوم، وكان لطمأنة المسيحيين وسط الأكثرية المسلمة. بمعنى آخر، لم يستطع اللبنانيون خلال أكثر من قرنين إنشاء مؤسسات سياسية حديثة تتجاوز الماضي وتحول اللبناني إلى مواطن بدلاً من أن يكون تابعاً لهذه الطائفة أو ذاك المذهب، وأن تكون الدولة مرجعيته بدلاً من زعماء الإقطاع الديني والسياسي. ولدى كل محاولة لتجاوز هذا الواقع يتحالف هؤلاء الزعماء لإعادة إنتاج التخلف، مرة عبر الحروب، وأخرى عبر قوانين الإنتخابات والأحوال الشخصية التي تجبر المواطن على الخضوع لها في حياته اليومية، وحتى بعد مماته (الإرث وخلافه).
كان يفترض بنواب «الأمة» أن يشرعوا قانوناً جديداً للانتخابات منذ سنوات. لكن خلافاتهم على تقاسم النفوذ وأموال الفساد حالت دون ذلك، فجددوا ولايتهم مرتين في انتظار حرب أخرى، أو دولة في المحيط أو ما وراء البحار لفض نزاعاتهم. وعندما أعياهم الأمر لجأوا إلى تلفيق قانون، أقل ما يقال فيه إنه متخلف، قانون يدعي اعتماد النسبية. لكن تفاصيله تكرس الطائفية والمذهبية أكثر. من ذلك، على سبيل المثال، أنه يمنع انتخاب المسلم مسيحياً، أو العكس، وإذا كان مرشح ما يعيش وسط أكثرية من طائفة أخرى ينقل ترشيحه إلى دائرة فيها أكثرية من طائفته. أي أنه ليس مسيحياً أو مسلماً إذا كان يعيش في منطقة غير «منطقته».
من اقترح هذا القانون ومن يناقشه هم أمراء الحرب الأهلية الذي حاولوا تقسيم البلد بالقوة وفشلوا، ليس لأن العلمانية سقطت عليهم من السماء، بل لأن صغر مساحته وحاجة الناس بعضها إلى بعض لا تسمح بذلك، فارتأوا، بعد قتل عشرات آلاف الضحايا، تقسيمه سياسياً، على حجم عقل كل واحد منهم. عقل ذاكرته كذاكرة الفيل، يستحضر التاريخ، وقدرته على التطور بحجم النملة.
«لبنان المنارة» أضاء العراق بدستور بريمر المذهبي، وفي طريقه إلى إنارة سورية.