ارتبط اغتيال الرئيس رفيق الحريري قبل 11 عاماً بجملة عوامل باتت تجد تفسيراتها العميقة في ما يحصل راهنا في لبنان وجواره. فالصراع على السلطة في لبنان ومنع انزلاقها من يد النظام السوري وجد صداه في الحرب التي يخوضها النظام منذ خمس سنوات دفاعا عن موقعه والذي بات مدعوما من قوى دولية واقليمية بما يفسر الى حد كبير الدفاع المستميت لروسيا من اجل تأمين الحصانة لبشار الاسد من المحكمة الدولية الخاصة باغتيال الرئيس الحريري لدى اقرار تشكيلها في مجلس الامن الدولي. لاحقا كان اغتيال النظام لسوريا بأسرها بمثابة تعبير عن عنجهية ومكابرة لديه في مقاربة الامور استهلت على نحو متهور في التمديد قسرا للرئيس اميل لحود في خريف 2004 وعدم الاتعاظ من تجربة ودرس قاسيين كلفا النظام ما عمل على تثبيته خلال ثلاثين عاما من محاولة السيطرة على البلد الجار الصغير.ثم تبين ان هذا المنحى التدميري ترجم في عدم الرغبة في اظهار اي مرونة في التعامل مع مطالب بسيطة في مطلع العام 2011 كانت وفرت على سوريا انهيارها الكبير وربما تقسيمها. لم يخف الحريري الاب في آخر اللقاءات معه عشية اغتياله ان التهديدات التي وجهت اليه من اجل التمديد للحود حملت صراعا على السلطة لم يشأ فيه الاسد مشاركة او تنازعا عليه من اي جانب او فريق في لبنان فيما هو، اي الحريري، اقر ايضا بانه سعى الى امتلاك السلطة ايضا. جسد عجز النظام عن تحجيم الحريري انه كان يساهم في زيادة رصيده كلما استهدفه ما بدا ان النظام سيسلك طريقا طويلة خاسرة اذا استمرت المعركة بينهما. عشية اغتيال الحريري خاض النظام عبر عهد لحود ما عرف بمعركة زيت الزيتون مع الحريري الذي خرج منها رابحا بجدارة وامتياز، الامر الذي كان يؤهله لحصد اغلبية في المجلس النيابي في الانتخابات التي كانت على الابواب ما كان سيضعف سوريا في لبنان متى خسرت القدرة على التحكم بمجلس النواب الذي جهد حلفاء النظام للسيطرة عليه بعد خروج القوات السورية على رغم فوز قوى مناهضي النظام بالغالبية النيابية والتي يعتقد انها الشرط الضروري لفك اسر الرئاسة اللبنانية راهنا بضمان الغالبية مسبقا بقانون انتخابي يضمن لحلفاء النظام هذه الغالبية. فالصراع وإن بات مرتبطا بامتدادات اقليمية خطيرة فانه لا يزال يدور على امكان السيطرة على السلطة في لبنان عبر حلفاء للنظام ورثوه في لبنان ويسعون الى ضمان موقع الرئاسة كما في زمن الوصاية السورية بفرض مرشح وحيد لا امكان للمناقشة حوله وبقانون انتخابي يضمن الاكثرية النيابية وحكومة باتت اشبه بمجلس امن مصغر لكل من افرقائه حق الفيتو الذي يمنع الاتفاق على اي قرا ر الا بالاجماع.
كان في ذلك السعي من جانب الحريري لانتزاع جزء من استقلالية القرار اللبناني تهديدا مباشرا لسلطة النظام السوري والتي ربطها بالتمديد لمن اعتبره الرئيس الأوثق له في قصر بعبدا والذي كان سيفسح في المجال امام تمرد اكبر لو تساهل حياله او لو تجاوب مع النداءات الدولية لترك اللبنانيين ينتخبون رئيسهم بانفسهم. جسد الحريري امكان تحرر السلطة في لبنان من سوريا ولو جزئيا. فالرجل خطا خطوة خطيرة ومهمة جدا حين رفد المعارضة المسيحية لاستمرار الوجود السوري وعدم اعادة انتشار هذا الاخير وفقا لاتفاق الطائف ببعد اسلامي وطني بحيث غدا يشكل تهديدا مباشرا لهذه السلطة. اقر ذلك بنفسه في اللقاء عشية اغتياله. توافرت مع تضافر جملة عناصر حول الحريري كل العوامل الممهدة لانتزاع لبنان من مخالب النظام السوري: وفاق وطني اسلامي مسيحي يمكن ان يبدد كما ظهر لاحقا في تظاهرة 14 آذار اي حاجة لاستمرار الوجود العسكري السوري في لبنان والذي كان يرفع ذريعة التهويل بامكان عودة اللبنانيين الى التقاتل في ما بينهم وان الوجود السوري هو الذي يمنع ذلك. اثار الحريري جنون النظام السوري حين اثنى على كلام البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير حول حتمية الانسحاب السوري من لبنان بقوله لـ”النهار” يومذاك “إن كلام البطريرك هو بطريرك الكلام “. ففتح عليه ابواب الجحيم.
يجدر الاقرار بأن رفيق الحريري الآتي من خارج الطبقة السياسية التقليدية التي اطبقت على لبنان في زمن الحرب انشأ حالة فريدة احبها كثر وانزعج منها او خاف منها كثر. لكن واقع الامرسواء بالنسبة الى من احبه او لم يحبه انه شكل رافعة للبنان بعد الحرب الطويلة التي عصفت به. فحمل بشخصه عنوان الثقة باقتصاد لبنان وامكان قيامته ولذلك حملت قدرته وارادته على اعادة تأهيل البلد سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وانمائيا قدرا كبيرا من الانتقادات والاعتراضات لاعتبارات متعددة بعضها حقيقي مبني على مقاربات سياسية او اقتصادية مختلفة وبعضها الآخر مفتعل خشية ان يكون الانقاذ الاقتصادي بابا لانقاذ سياسي يخرج لبنان من رهن طويل. فبات لبنان بعد اغتيال الحريري مفتقدا ايضا الموقع الدولي الذي استعاده الاخير عبر علاقاته البسيطة والمعقدة في الوقت نفسه مع كبار زعماء العالم مع ان السياسة الخارجية للحريري الاب لم تتمرد على النظام السوري، كما افتقد ثقة ابنائه بمستقبله. والحال التي وصل اليها لبنان منذ اغتيال الحريري على كل الصعد تشهد للرجل بما كان يرفض خصومه الاقرار له به اي تشكيله شبكة امان لمؤسسات البلد واستقراره الاقتصادي والمالي وامكانية مفتوحة على استعادة البلد جزءا من استقلاله، الى جانب بقائه محور اهتمام دولي يستميت راهنا للحصول على البعض منه.