IMLebanon

لبنان: قانون خدمة العلم لحماية الديموقراطية!

عندما قال جورج كليمنصو، رئيس الحكومة الفرنسية خلال الحرب العالمية الاولى، ان الحرب هي اكثر جدية من ان تترك للجنرالات وحدهم، فإنه لم يكن، على الارجح، يقصد التقليل من مكانة العسكريين ومن قدرتهم على قيادة الحروب، وإنما كان يؤكد ان السياسيين ليسوا في حلٍّ، عندما تقرع طبول الحرب، من مسؤولياتهم، وليس لهم ان يتخلوا عندها عن دورهم في ادارة الصراع مع الاعداء. هذا هو الوضع المعتاد في الدول العادية. ولكن في بلد مثل لبنان، يعاني انسداداً سياسياً وتدهوراً اقتصادياً، وأزمات اجتماعية متراكمة، وأخطاراً امنية محدقة، فإن دور الجنرالات في قيادة المعارك، قد يكون اكبر من الدور الذي اراده كليمنصو لهم، وإن يكن اقل من الدور الذي أراده لأهل السياسة.

على رغم هذه الظاهرة، فإن كلاً من الطرفين، اي السياسيين والعسكريين، يسعى الى مراعاة الاصول المعمول بها والمدونة في «الكتاب». فبينما يؤكد قادة القوى اللبنانية المسلحة ان القرار السياسي في ادارة الصراع مع المنظمات الارهابية هو، في نهاية المطاف، للسلطة السياسية، فإن الزعماء اللبنانيين يحاولون مواكبة المعارك بالغطاء السياسي. وقد تجسدت هذه المواكبة في أمرين:

الاول، هو تأكيد السلطة السياسية، بكل اجنحتها الرئيسة وباستثناء افراد قلائل، مساندتها الكاملة للجيش، ودعوة اللبنانيين الى الالتفاف حول القوات المسلحة المؤهلة لحماية اللبنانيين من الارهاب، مع التنبه الى ان المعارك التي يخوضها لبنان باتت تحمل الطابع الوجودي الذي يهدد مصير اللبنانيين كشعب وكأفراد.

الثاني، هو ترجمة المساندة التي تقدمها السلطة السياسية الى الجيش عبر قرار زيادة عديد القوات المسلحة بتطويع 11 ألف عسكري.

على رغم ان قرار التطويع يجسد خطوة ملموسة لسياسة دعم الجيش، فقد استقبلت الخطوة الاولى باهتمام اكبر نظراً الى اهميتها على صعيد الحفاظ على ما تبقى من تماسك مؤسسات الدولة وبخاصة المؤسسة العسكرية. اما الخطوة الثانية المتعلقة بالتطويع، فإنها مهمة وضرورية ولكنها تستحق المناقشة. فإذا كان رفع عديد الجيش ضرورياً وملحاً، فلماذا يقتصر العدد على 11 ألف عسكري فحسب؟ ولماذا يكون التطوع هو الطريق الى زيادة عديد الجيش؟ هناك مبررات لهذه الخيارات، ولكنها حتى الآن ليست واضحة تماماً.

لقد جاء البديل من هذا القرار في اقتراح النائب وليد جنبلاط الذي دعا الى «إعادة التفكير بالخدمة العسكريّة الإلزاميّة لتكوين احتياطي لدعم المؤسسة العسكريّة عند الحاجة». فلا ريب في ان الحاجة موجودة. ان الجيش يواجه جبهات متعددة. وقد خرج حتى الآن من المواجهات بأعلام خفّاقة ومعنويات عالية. ولكنّ هناك انطباعاً لدى سائر المعنيين بأن الحرب التي تشنّها قوى ارهابية ضد لبنان لن تكون عابرة وسريعة، بل انها ستستمر لزمن غير قصير.

خلافاً لما يقال، فإن اعمال الارهاب هنا لا تستهدف حزباً او فئة معينة. على الاقل ان هذا السبب لا يشكل الحافز الرئيس لها للقيام بمثل هذه الاعمال في لبنان. السبب الاهم هو ان لبنان يمثل نموذجاً للحكم وللعيش يختلف عن ذاك الذي تدعو اليه تلك المنظمات. ففي لبنان نظام ديموقراطي، بينما تعتبر هذه المنظمات أن الديموقراطية كفر وهرطقة. ولبنان مجتمع مفتوح، عصري وتعددي، بينما تعتبر هذه المنظمات تلك الصفات وجهاً آخر من اوجه الكفر. ثم ان لبنان بلد صغير ومحدود الموارد والطاقات، مما يوحي بأنه هدف سهل امام الطامعين. اذا اضفنا الى ذلك ان القوات المسلحة اللبنانية قدمت نموذجاً لبعض الجيوش العربية الأخرى بكفاءتها وجرأتها في مواجهة هذه المنظمات الارهابية، فإنه حري بنا ان نتوقع فتح جبهات جديدة ضد القوات المسلحة اللبنانية بقصد «تأديبها»، وتحويلها هي الاخرى الى نموذج لعجز المؤسسات العربية عن مواجهة التحديات. كذلك فإنه حري بنا ان نعتبر ان هناك حاجة ملحّة الى الاسراع بإعادة التفكير بخدمة العلم.

لقد جاء القرار بتطويع 11 ألف عسكري تعبيراً عن الاقتناع بحاجة القوات المسلحة الى زيادة عديدها، وإذا كانت الزيادة ضرورية، فلماذا لا نصل بالزيادة الى حدّها الطبيعي؟ اي لماذا لا نطبق على اللبنانيين قانون خدمة العلم؟ لماذا نميز في مواجهة التحديات الامنية، مرة اخرى، بين اللبنانيين؟ لماذا نميز بين لبناني متطوع، يستجيب نداء الوطن، ولبناني لا يتطوع ولا يكون له دور في مواجهة التحديات الامنية التي يواجهها لبنان؟ فضلاً عن ذلك، فعلى اي اساس يجرى اختيار المتطوعين؟ وكيف نطبّق القرار بحيث نحرم من يريد الاصطياد بالماء العكر من صيده؟ ان خدمة العلم تطبّق على جميع اللبنانيين، وتساوي بينهم، وهي بالتالي تغلق الابواب أمام علامات الاستفهام والتأويلات والتفسيرات التي تحكمها الهواجس والوساوس. حتى نكون اكثر دقة، ان خدمة العلم قد لا تغلق الباب كلياً أمام ردود الفعل هذه، ولكنها لا تثير المقدار نفسه من التساؤلات التي يثيرها قرار التطويع.

ان البعض من ذوي التجربة والاهتمام قد يفضل التطويع على إحياء قانون خدمة العلم لسببين:

الاول، هو ان القوات المسلحة لا تشكو من نقص اساسي في عديدها، وإنما تشكو من التوجيهات السياسية الخاطئة. ان هذا الرأي قد يكون صحيحاً اذا كان البلد هو نفسه يقف على شفا حرب اهلية بين اطراف الصراع الرئيسة فيه. هذا ما حدث في العراق في عهد حكومة نوري المالكي. فعندما احتلت قوات «داعش» الموصل، كان العراق يقف على شفا حرب اهلية بسبب السياسة الاقصائية والطائفية المفرطة في التعصب والتي مارسها المالكي. هكذا انهار الجيش العراقي خلال ساعات قصيرة، وهو الذي كان واحدا من اقوى جيوش المنطقة، وكان عديده حتى ابان فترة ضعفه يفوق 650 الف عسكري.

في لبنان الامر مختلف تماماً. فهناك اتفاق بين القيادات السياسية والعسكرية اللبنانية على ان الجيش في حاجة الى زيادة عديده، بخاصة مع تكاثر المؤشرات إلى ان الحرب مع المنظمات الارهابية ستكون طويلة الامد. اما في صدد الاعتبارات السياسية، فلا شك في انها تؤثر في أداء القوات المحاربة. إلا ان النخبة السياسية على عمق الصراعات بينها، وعلى حدة الخلافات المذهبية المنتشرة بين انصارها، تمكنت من اتخاذ مواقف متقاربة إن لم تكن جماعية الى جانب الجيش اللبناني.

وتمكن الجيش، بفضل جدارته العسكرية ومناقبيته العالية، من خلق مناخ وطني عابر للطوائف وللعصبيات الفئوية. هذا المناخ ساعد الأطراف اللبنانية الرئيسة على الاحتكام، ولو موقتاً، الى القيم الوطنية بدلاً من الشحن الطائفي والمذهبي في مجابهة الغزو الارهابي الذي تعرض له لبنان. وقد مرت هذه التجربة بنجاح، وخرجت منها الاطراف اللبنانية الرئيسة من دون خسائر كبيرة. على العكس من ذلك، فقد استفادت هي الأخرى من موجة التعاطف مع الجيش.

الثاني، هو ان خدمة العلم هي – في نظر الناقدين – قرينة الانظمة الديكتاتورية. انها قد تفتح الباب امام دعاة هذه الانظمة للوصول الى السلطة، او ان الانظمة الديكتاتورية تطبّق خدمة العلم بعد وصولها اليها كوسيلة لتمتين حكمها وترسيخه. ان هذه الملاحظة تخطئ عندما تحصر تطبيق خدمة العلم بالأنظمة الاستبدادية. ان عدداً من اقدم الديموقراطيات طبق التجنيد الالزامي. من هذه الدول فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة. طبقت هذه الدول التجنيد الالزامي ابان الحروب. الى جانب هذه الدول، توجد دول ديموقراطية اخرى لا تزال تطبق الخدمة الالزامية حتى تاريخنا هذا مثل سويسرا. السويسريون لا يطبقون التجنيد الإجباري فحسب، وإنما يطبّقون ايضاً سياسة الدفاع الوطني الشامل. ولبنان قادر على الاخذ بأي من هذه الخيارات. اي انه يستطيع تطبيق خدمة العلم ما دامت الحرب على الارهاب مستمرة، حتى اذا انتهت يستطيع التخلي عنها.

ان نظام خدمة العلم لم يساعد، في كثير من الاحيان، على حماية الدول التي طبقته من العدوان الخارجي فحسب، بل إنه ساعد ايضاً على ترسيخ المفاهيم الديموقراطية. انه يجسد فكرة المساواة بين المواطنين، ويعودهم على تجاوز العصبيات الفئوية والانانية، وينمي فيهم القدرة على العمل في الإطار المؤسسي والجماعي. ربما كانت هذه المفاهيم بعيدة من الاجواء السائدة في المؤسسات العسكرية خلال القرن الفائت، الا ان هناك جهود مبادرات متراكمة اليوم بقصد ترسيخ المفاهيم الديموقراطية داخل المؤسسات العسكرية. العاملون في هذا المضمار سيجدون باب المؤسسة العسكرية اللبنانية مفتوحاً، اما اذا طبّقت خدمة العلم، فإن ابوابها ستكون مشرّعة على مصاريعها.