لم يفهم المواطن اللبناني بأنه أضحى دمية في لعبة السياسيين. لم يفهم المواطن اللبناني بأن السياسيين أصبحوا ملعباً في مجمع الغرب ينتظرون القرارات الدولية ليبادروا بإقرار المشاريع الإنمائية والإلتفات المؤقت إلى مصالح المواطنين بينما لم يتوقفوا يوماً عن نهب خزينة الدولة. والقائم عندنا اليوم، أنه أصبح الجميع يهتم بالمصالح السياسية الضيقة بدل من المبادرة لإنماء الإقتصاد الوطني واقتناص فرص الإستثمار وخلق دورة إنتاجية ترفع من النمو الإقتصادي وتضاعف من مداخيل الخزينة لأن السياسة في هذا البلد أضحت مورد رزق للسياسيين وأزلامهم وعائلاتهم وكأن الأموال العامة حساب خاص وكأن الدولة بقرة حلوب في مزارعهم. هو أمر مبرر في غياب تحديد مفهوم الدولة في هذا الوطن الصغير ودورها ووظيفتها وغياب الديمقراطية التشاركية بالمعنى الأفقي الواسع لا العامودي الضيق، بعد أن تحولت السلطة إلى فرصة يقتنصها من يستطيع تجييش الناس وشراء أصواتهم بالمال السياسي القذر حتى لو كانت وعوده مستحيلة التنفيذ.
هذه ثقافة من نوع خاص تسود الأوساط الشعبية، حيث لا يمكن الحديث عن ثقافة ديمقراطية في ظل إصرار الوصوليين الإنتهازيين على الجمع بين السياسة والتجارة من جهة، وشيوع ظاهرة المال السياسي التي أفسدت التجربة والأخلاق من جهة أخرى. والغريب في الأمر، أن الأنظمة العميلة تشجع هذا النوع من الممارسات وتحميها، لأن الحاكم الفاسد لا يمكن أن يستمر في الحكم إلا بالإستبداد وبإفساد الطبقة السياسية والنخب في البلاد، فتتحول الديمقراطية إلى مظاهر فلكلورية وشكلية تغطي واقعاً مخفياً من التخلف والعفن في العقول وهذا جزء من مشروع الفوضة البناءة الذي وعدنا به الغرب.
كما تعتمد رموز الدولة الفاسدة على بقائها وضمان إستمرارها على عامل «الأمن» من مرتزقة ومأجورين وعامل «الإعلام» بجيش من المهرجين والكتبة من تجار الحرف، وعامل «الدين» بعصابة يتقنون فن تحوير تعاليم السماء ويضفون على السياسيين الفاسدين هالة من التقديس، ويجرمون من يخرج عليهم ويتوعدونه بالعذاب في الدنيا والجحيم في الآخرة. وهؤلاء هم شر البرية، يشبهون إلى حد بعيد سحرة فرعون في مصر القديمة.زعماء وحكام يجثمون على صدور شعوبهم مدى الحياة، والله وحده هو من يقرر متى يعزلهم بأخذ أرواحهم. والأموال المنهوبة توزع بحسب درجة الولاء للنظام والأحزاب، لذلك لا وجود لطبقة وسطى منتجة، هناك طبقة فاحشة الثراء خلقتها الأنظمة المستبدة الفاسدة تسمى «الأسياد»، وهناك طبقة واسعة جدا من الفقراء تسمى «الرعاع» والجميع يعيش على إستهلاك ما ينتجه الغرب من قلم الرصاص إلى السيارة الفارهة ويفرح لفرح أولياء نعمته من السياسيين والمحسوبين.
أرأيتم كم نحن محظوظون في لبنان بلد الحرف والأبجدية ومنارة الثقافة والحضارة وبيروت هي أم الشرعية ولكن لا يسعنا انتخاب رئيس جمهورية والحركة السياسية والاقتصادية من دون بركة وكأن صور التعيينات وآلية الحكم دائماً شفافة وتفي غرض الادارة العامة وتخلصها من آفة الفساد المستشري في أقسامها المشلولة؟. رقبة شعب بكامله سلمت لـقرارات خارجية وأقليمية، وأزمة إقتصادية وسعت من مساحة الفقراء والمعدومين، وهزات أمنية تضاعف من جيوب الخوف والوعود المتكررة بأن الموت سوف يكون على الأبواب وتقارير تنذر بأن المسلحين التكفيريين قد سيطروا على نحو ألف كيلومتر مربع من الحدود اللبنانية السورية في جرود السلسلة الشرقية، بينها نحو 450 كيلومتراً داخل الجرود اللبنانية نفسها، وبطول 56 كيلومتراً. ويبلغ عدد المسلحين في الجرود نحو ثلاثة آلاف مسلح وأين الدولة اللبنانية من كل هذا؟.
أرأيتم مشاهد الإنماء والصفاء والأمان والإستقرار والإزدهار.. لبنان وطن مشوّه ومقسم ومهدم حتى أن بات شعبه أشباحاً بلا أرواح. هذه هي الحقيقة المؤلمة.. ولا سبيل لتغيير هذا الوضع بالاضرابات والتحركات الشعبية، لأن الأنظمة الفاسدة تحمي نفسها بما يسمى بالدولة الديمقراطية من جهة وبعمالتها للخارج من جهة ثانية. وبالتالي، فلا عجب أن تكون أولويات سياساتها تقوم على خدمة القوى الخارجية التي تؤمن لها الحماية، وتسكت عن إستبدادها لتأبيد فسادها الذي تزول من هوله الجبال. ومن هنا يظهر فرق «القيمة» بين المواطنين في الغرب والرعية في العالم العربي المهددين دائماً في عيشهم ومعيشتهم وكأنهم ماشية ورقبتهم بيد الجزارين. وإذا لم تتغير هذه العقلية أقلها في هذا الوطن الصغير وبسرعة فلن يُبنى وطن ولن يبقى لبناننا موزاييك الطوائف بصورته التعددية! حينها على لبنان السلام!!