العلاقة بين تونس وشرق المتوسط قديمة جدًا، والقواسم المشتركة لا تقف عند قصة أليسار ابنة مدينة صور ثم ملكة قرطاجة نواة تونس الحديثة.
فعبر التاريخ توافرت نقاط تلاقٍ كثيرة بين البلدين الشقيقين المتميّزين بطبيعة ساحرة ومناخ بديع والشغوفين بالتفاعل مع العالم الخارجي، والمزهوّين في تاريخهما الحديث بإيمانهما بالحكم المدني. علما بأن هذا الإيمان لم يحل دون انزلاقهما في فترات باتجاه الإفراط في تبجيل بعض الزعامات، وفي فترات أخرى بالرضوخ لبعض الوقت للحكم الأمني المتستّر خلف تسميات مدنية.
ولكن هنا يتوقف التشابه، إذ بينما نجحت تونس أكثر من أي دولة من دول «الربيع العربي» بالتعايش الهادئ والإيجابي، سقط لبنان في اختبار التعايش مع تداعيات هذا «الربيع» مع أن علاقته به علاقة جوار لا أكثر.
لقد اجتاز التونسيون تجربتهم الانتخابية الديمقراطية الثانية بنجاح يستحق الإعجاب، وسقط بأصوات الناخبين حزب رئيس الدولة وحزب رئيس مجلس النواب، وتقلّص تمثيل الحزب الأكبر والممثل الأساسي لقوى الإسلام السياسي، وحصل على أكبر عدد من المقاعد حزب مدني ليبرالي، وجاء في المرتبة الرابعة حزب يساري ملتزم موارده المادية محدودة.
لا الإسلاميون تعجّلوا «التمكين» ولا خصومهم تعجّلوا التخلّص منهم، بل حصلت «مساكنة» سياسة استمرت على الرغم من منغّص الإرهاب، متمثلًا بالوضع في جبل الشعانبي واغتيال المناضلين شكري بلعيد ومحمد البراهمي.
لبنان، للأسف، يحتل الجانب الآخر من الطيف.. إنه ليس فقط بلدا يعيش منذ شهور من دون رئيس جمهورية، بل هو بلد بلا حكومة بالمعنى الدقيق للكلمة، ولا إجماع على الهوية، ولا منظور للعقيدة القتالية للجيش ومؤسساته الأمنية. لبنان بلد بلا سقف ولا جدران، لا يشعر مسؤولوه بالمسؤولية، ولا المؤتمنون عليه بطبيعة الأمانة وحجمها، ولا يحسّ مواطنوه بالانتماء المشترك والمصير الواحد. وفي ظل هذا الوضع ينعدم الانسجام في المواقف حول أخطر القضايا بين أفراد الفريق الوزاري الواحد فيغرّد كل وزير على هواه و«يفتح على حسابه».
الانتفاضة الشعبية السورية ضد نظام الأسد كانت فعليًا اختبارا مهمًا لعدة أطراف إقليمية ودولية بجانب النظام السوري نفسه. وبما يخصّ لبنان، أعلن «حزب الله» صراحة أنه التحق بالقتال في سوريا دعمًا للنظام، كما ذكرت مصادر عدة أن جماعات سنّية لبنانية أيضا شاركت في المعارك ضد النظام والميليشيات الشيعية الداعمة له بأوامر إيرانية. ومن ثم، ناشد أمين عام «حزب الله» السيد حسن نصر الله خصومه داخل لبنان «تحاشي استدعاء الفتنة السورية عبر مقاتلة حزبه داخل سوريا». وعليه، كان «حزب الله» يدرك تبعات قتاله في سوريا على الوضع الداخلي اللبناني، وكانت الحكومة اللبنانية يومذاك برئاسة نجيب ميقاتي، المدعوم من «حزب الله»، أيضا تتحسّب لمخاطر تلك التبعات، ولذا تبنّت لفظيًا شعار «النأي بالنفس» عن الأزمة السورية.
في هذه الأثناء كانت المؤسسة العسكرية – الجيش والأجهزة الأمنية – وما زالت انعكاسًا صادقًا لانقسام بيئتها اللبنانية طائفيًا وسياسيًا، أقله، على مستوى كبار الضباط الذين لا يُصار إلى ترقيتهم لأعلى المناصب الحسّاسة من دون موافقة زعامات طوائفهم. ثم إن هذه المؤسسة أعيد بناؤها إبان فترة الهيمنة الأمنية السورية المباشرة بين 1990 و2005. وهنا للتذكير ليس إلا، بعد «اتفاق الطائف» عام 1989، وافقت كل الميليشيات اللبنانية على نزع سلاحها ووضعته بتصرف الدولة باستثناء «حزب الله»، بحجة أنه يقاوم الاحتلال الإسرائيلي الجاثم على مناطق واسعة من جنوب لبنان. ولقد وافقت تلك الميليشيات يومذاك على الاستثناء احترامًا منها للحزب وتضحياته ودوره.
عام 2000 انسحبت إسرائيل ورسمت الأمم المتحدة «الخط الأزرق»، لكن «حزب الله» رفض تسليم سلاحه بحجة أن الخط لا يحترم «لبنانية» مزارع شبعا وتلال كفرشوبا وهي مناطق سنّية في أقصى شرق جنوبي لبنان. وخلال الفترة من 1998 و2005 شهد لبنان صراعًا سياسيًا مريرًا بين إميل لحود رئيس الجمهورية وقائد الجيش السابق المقرّب من دمشق ورئيس الوزراء السابق الراحل رفيق الحريري انتهى باغتيال الأخير. وفي حينه اتهمت بالجريمة جماعات محسوبة على سوريا ثم وجه الاتهام مباشرة إلى عناصر في «حزب الله» بارتكابها. لكن الحزب رفض تسليم عناصره التي طلبت المحكمة الدولية الخاصة باغتيال الحريري مثولها أمامها. كذلك رفض الحزب تسليم عضو فيه متهم بمحاولة اغتيال الوزير بطرس حرب.
تنامي نفوذ «حزب الله» داخل لبنان، وتحويله سلاحه إلى الداخل منذ عام 2008، مع اجتياحه بيروت وتهديده الجبل، أوجد مناخًا طائفيًا مضادًا له في المناطق السنّية منها: مدينة طرابلس ومناطق عكار والضنية في الشمال ومدينة صيدا في الجنوب وبلدة عرسال في البقاع الشمالي. وجاء اندلاع الانتفاضة السورية ليضع الجيش اللبناني أمام اختبار، يبدو على المدى القصير – أو علانية – أنه تجاوزه، لكن منطق الأمور يقول غير ذلك. وعلى الرغم من إعلان القيادات السنّية المعتدلة في لبنان دعمها الجيش فهي تعلم أن قاعدتها الشعبية وإن كانت ضد «داعش» وضد جبهة «النصرة» فهي ساخطة على انحياز الجيش وسكوته عن هيمنة «حزب الله» على قراره السياسي.
بالأمس ظهر على شاشة إحدى الفضائيات العربية معلقان لبنانيان أحدهما مسيحي والثاني شيعي قالا كلامًا صريحًا يحاول الساسة السنّة تحاشيه. المعلقان قالا ما معناه إنه لا بديل للبنان عن وجود الجيش، لكن لا بد أن يكون هذا الجيش لجميع اللبنانيين وعلى مسافة واحدة منهم. لا يجوز أن يتصدّى الجيش لمسلحين من هذه الطائفة بحجة أنهم يحملون بنادق، بينما يشيح بنظره عن مسلحين من طائفة أخرى ينقلون أسلحة ثقيلة وصاروخية. ولا يصح أن يقتحم أحياء وبلدات لاعتقال مطلوبين هنا، بينما هو ممنوع من الاقتراب من مربعات أمنية هناك يوجد فيه مطلوبون.
هذه حقائق صارخة.. أهم من الكلام المعسول والمحبّة الكذابة.