قبل أيام كانت أجواء لبنان مسرحاً لبروفة مواجهة جوية. لبنان حذّر وقال إنه ما من صواريخ تفجرت في أجوائه، والبيان العسكري السوري تحدث عن إصابة مباشرة لطائرة للعدو، وإسرائيل أعلنت عن تدمير موقع صواريخ شرق دمشق، زعمت أنه المكان الذي أطلق منه صاروخ «سام»، ونتنياهو يبلغ الجنرال سيرغي شويغو وزير الدفاع الروسي رفض تل أبيب تثبيت مواقع إيرانية في سوريا.
حتى الآن الأمور تحت الكونترول، لكن الكل متوثب وينتظر، فالجديد كبير ومختلف.. الوضع بين الولايات المتحدة وإيران مختلف بالكامل عما كان عليه طيلة الولاية الثانية من عهد الرئيس أوباما، ولو أمعنا أكثر، مختلف جذرياً عن كل ما شهدته المنطقة منذ قرار بريمر حل الجيش العراقي، وبدء الحرس الثوري تعبئة الفراغ بتشكيل ميليشيات طائفية وتدعيم الموجودة، وصولاً للتبجح بأن طهران تسيطر على أربع عواصم عربية. ولوضع الأمور في نصابها، انتقلت المنطقة من التململ إلى مواجهة التحدي الإيراني، فشكل إطلاق الرياض عاصفة «الحزم» مرحلة نوعية في بدء مواجهة هذه العنجهية من خلال دعم الشرعية اليمنية، ومواجهة الانقلابيين ميليشيا الحوثي المتحالفة مع علي عبد الله صالح، حيث عبرهم هددت طهران أحد شرايين الملاحة الدولية.
الرئيس ترمب حسم بتحميل طهران المسؤولية عن زعزعة الاستقرار في المنطقة، فرفض توسعها ونهجها للهيمنة، ولوّح بعصا غليظة من العقوبات الأميركية على إيران والحرس الثوري وأذرعه العسكرية، ومنها بالطبع «حزب الله» الذي أفردت له واشنطن عقوبات واسعة، ما يجعل الأمور أكثر ضغطاً على لبنان، وليس على الحزب وحده. السبب جلي ومعروف، لأنه لأول مرة تذهب المواقف الرئاسية إلى حدِّ التماهي مع «حزب الله» وسلاحه، وتكرر الأمر في الساعة الأخيرة من حرب الجرود، فالتغت المسافة الفاصلة بين الجيش اللبناني وسلاحه والميليشيا المسلحة، مما سيجعل لبنان كله في دائرة استهداف العدو الإسرائيلي. لوّح بذلك وزير الحرب الإسرائيلي المتطرف ليبرمان، ومنذ وقت طويل كشفت تل أبيب أن استراتيجيتهم الجديدة حددت المؤسسات الرسمية اللبنانية كأهداف في أي حرب قد تنشب.
لكن في لبنان استرخاء، مجلس النواب في جلساته لم يتطرق لأي شيء، ومجلس الوزراء ناقش جدول أعمال عادياً واتخذ كعادته قرارات مالية خدمة للمحاصصة في السلطة، والرئيس سعد الحريري الذي فاجأه الإعلام الإيطالي بالسؤال عما يحدق بلبنان من خطر قال: «ما الذي يقدمه أو يؤخره لبنان في الكباش بين أميركا وإيران»؟ وبمعنى آخر هناك على مستوى الحكم، استسهال وهروب من القراءة الدقيقة في أبعاد الاستراتيجية الأميركية الجديدة، وتعامٍ عن التبصر في أبعاد مرحلة عاصفة بحاجة لقراءة متأنية، مرحلة عنونتها الاندفاعة الأميركية: تحجيم النفوذ الإيراني وفرض التراجع على طهران.
وفق نظرية رئيس الحكومة الانتظارية، لبنان مساحة جغرافية يتابع الناس هنا الأحداث، وبلد فاقد للمبادرة، حوّلته «التسوية» السلطوية إلى بلدٍ وحيدٍ معزول، إلاّ إذا اعتبرنا أبواق بشار وأتباع طهران ضمانة وخط دفاع لن يقهر!! ووفق هذه السياسة «الناجحة» يستمر التجاهل الفعلي لكل ما يقوم به «حزب الله» الذي استهان باللبنانيين واسترهن حياتهم وعملهم وجنى العمر… إلى وجودهم ودورهم والحياة التي بنوها، في أكثر من مكان وبالأخص في بلدان الخليج العربي. فـ«حزب الله» لم يتأخر يوماً كلما برزت عناصر تشي بتشديد الحصار على إيران، للحد من تدخلها السافر في شؤون دول المنطقة، إلاّ وأطلق حملة إعلامية تحريضية، ضد الولايات المتحدة ودول الخليج العربي التي ناصرت لبنان دوماً، أقله ليعيد التأكيد أنه جزء لصيق من الحرب التي تفرضها الميليشيات الإيرانية على بلداننا، وأنه منخرط بقوة في الحرب المفروضة على الشعب السوري، ومتدخل في اليمن والعراق والبحرين… إلخ، ما سيتسبب في نهاية المطاف بعواقب وخيمة على كل لبنان.
لبنان يعيش هذه الأيام وضعاً غير مسبوق، بلد همشه البعض وقادوه إلى العزلة، وهو لم يكن أبداً كذلك، ولنتذكر كيف واجه ومن أي موقع في حرب «عناقيد الغضب» عام 1996، ولم يكن كذلك وضعه عندما تم استدراج حرب عام 2006، والغريب أن القوى المستأثرة بالحكم، متمسكة بأولوياتها في نهج المحاصصة والتقاسم، وما من أحد يعنيه بشيء أن البلد بات رهينة، وورقة في ملف مرصود لخدمة المصالح الإيرانية، ما حتّم وضعه تحت التهديدات الإسرائيلية ومقصلة العقوبات الأميركية.
إن برنامج الهيمنة الإيرانية، وانخراط «حزب الله» به، وهو يجاهر أنه يتحرك بـ«تكليف شرعي»، لا يستطيع لبنان تحمل تبعاته فيتم دفعه للهاوية. في هذه اللحظات تتطلب إدارة الشأن اللبناني ممارسة سياسية أخرى، تكبح التغاضي والخفة في تحميل لبنان وزر مواقف غير مسؤولة، في منطقة تفجرها الحروب المفروضة وتغلي بالصراعات المديدة. الألف باء الآن هي التسلح بمرجعية القرارات الدولية بشأن لبنان، والعودة لدوره في قلب الشرعية العربية، واستعادته لوثيقة الوفاق الوطني التي رسمت نهجاً لبلد لا يمكن أن يُزج في محور «الممانعة»، وكذلك التبصر بما تحتمه حقيقة مصالحه الوطنية ومصالح الانتشار اللبناني، ما يعني ضرورة العودة إلى البيان الوزاري، لوضعه في التطبيق لأنه الطريق الوحيد للحفاظ على البلد وتلافي كارثة محدقة بالجميع، فيما هذا الاطمئنان لما تمليه طهران عبر حزبها قد يُلغي لبنان.