IMLebanon

لبنان الآن.. بلا أخلاق..  

إنّ جهلنا بما يدور حولنا وعندنا هو أمر مبرر.. وذلك من المرّات القليلة التي يكون فيها الجهل مرتبة من الوعي والإدراك.. لأنّ الغموض سيد الموقف وضبابية الأحاديث عن الصراع لسنوات طويلة تزيد الأمر غموضاً وربما تعقيداً.. حتى الدول الكبرى في مثل هذه المواجهات تضع إستراتيجيات متحركة أي قابلة للتعديل وربما للتّغيير حسب مقتضيات الواقع أو الميدان.. وهذا يعني أنّ منتهى العقل هو إعلان جهلنا.. ونرى ذلك كثيراً لدى كبار العلماء عندما يتحدّثون عن أنّهم لم يكتشفوا علاجاً لأمراض مستعصية منذ عقود طويلة.. وهذا ما يزيدنا إحتراماً وتقديراً لهم ولعلمهم..

ما يحدث عندنا عكس ذلك.. فالجميع يعرف ماذا يجري ولماذا حدث وإلى ماذا ستنتهي الأمور.. وهذه الظاهرة تعتبر مرضاً مستعصياً لا بل وباءاً يكاد يفتك باللبنانيين جميعاً.. ولقد بلغ الإدّعاء عندهم إنشغالهم بالبرامج الترفيهية والتبصيرية والتافهة والسجالات السياسية حول قضايا وهمية لا وجود لها بالأساس.. والكارثة هي أنّ هؤلاء بدأوا يتحضرون لقطاف ثمار أكبر حرب عالمية لأكبر تحالف دولي إقليمي لم تشهده البشرية سابقاً.. لا في الحرب العالمية الأولى ولا في الحرب الثانية ولا في الحرب الباردة.. وكأنّ هذه الدول والتريليونات التي ستُدفع ومئات الآلاف الذين سيُقتلون والأهوال والدمار والتهجير.. كلها تحدث من أجل مجموعات صغيرة في لبنان تريد أن تعيش وحدها خارج التاريخ وخارج الوطن والأكثر سخرية خارج مصالح الجماعات التي تمثّلها..

نشهد الآن تأقلماً مع حالة تفكك الدولة.. بدءاً من رئاسة الجمهورية مروراً بالمؤسسات التشريعية والتنفيذية والعسكرية والأمنية والقضائية.. وكلّها تشهد إنهياراً مأساوياً وسريعاً.. وأكبر دليل على ذلك الإنهيار هو إنعدام ثقة المواطنين بدولتهم ومؤسساتهم وببعضهم البعض.. ولا يكذب أحد على أحد فالحديث عن التّسلّح مجدّداً هنا وهناك ليس كذبة أو دعابة لأنّه «لا دخان بدون نار».. ويبدو ذلك واضحاً في عدم الإلتفاف حول ما تبقى من الشرعية.. وكل ذلك لا يعبّر إلاّ عن رغبة أطراف عديدة بالخلاص من الدولة الوطنية الواحدة.. وهذا حديث يطول أردنا أن نشير إليه لا أن نتعمق فيه حرصاً منّا على الصدق والشفافية.. ونكتفي بالتّعبير عن الهواجس والمخاوف على وطننا وأهلنا..

إنّ أكبر التّحدّيات التي تواجهني في كتابتي هي الإقتراب من النواحي الأخلاقية.. فكلّما كَتَبْتُ بصدق وهو أمر أخلاقي أشعر بأنّ أخلاقيّتي مطعونٌ بها في شخصيّتي الوطنية.. أي أنّ الجانب الأخلاقي من الشخصية الوطنية الفردية والجماعية هو أمر ساقط من التّداول.. لا بل غير ضروري.. لأنّنا تجرّأنا على مدى عقود وبشكل مستمر على المكوّنات الأخلاقية للفرد والمجتمع.. وطبعاً نحن لا نشعر اليوم في حياتنا بأنّنا أصبحنا بدون أخلاق لأنّ الكذب لا يعتبر عيباً أو جريمة أو قد يتسبب بضياع كلّ اللبنانيين..

المخيف في لبنان هو أننا لا نستطيع أن نميّز بين الصديق والعدوّ.. فلا مانع في أن يكون صديقك الحميم منشغل في كيف يكون عدوّك اللدود.. وهذه أخلاق طائفيّة شائعة لأنّ الطائفية السياسية تقوم على إلغاء الآخر باسم التعدّد الطائفي.. والحقيقة أنه ليس في لبنان طوائف سياسية بل هناك طائفيّين سياسيّين.. وهم حزبٌ واحد وطائفة واحدة ومن كلّ الطوائف.. وهم ظاهرة داعشيّة عريقة متطوّرة استطاعت السير على كلّ الخطوط العسكرية السياسية غير الأخلاقية والتأقلم مع كلّ المحتلّين والظالمين والطامعين في لبنان.. وإنّ عدوّهم الوحيد هو الوحدة الأخلاقية والقيم الوطنيّة اللبنانية التي كلّما ازدهرت يتقهقر الطائفيّين السياسيّين أو الداعشيّين اللبنانيّين.. وما أكثرهم في لبنان..

إنّ إنعدام الأخلاق في لبنان يطال كلّ التكّونات الإقتصادية والأهلية والدينية والسياسية ووو.. لأنّهم جميعاً تجاوزوا المحرّمات الأخلاقية كلها دفعة واحدة عندما شرّعوا النّزاعات المسلحة بين ابناء الوطن الواحد والمدينة الواحدة.. ثم بين أبناء الطائفة الواحدة والأسرة الواحدة واستثمروا فيها.. وما من جرم أخلاقي في تاريخ البشرية يساوي قتل الإنسان.. فكيف إذا قتلنا كلّ الناس وبأبشع الصور وبدون أسباب ولا أهداف.. وفي ذلك قمة الإنهيار الأخلاقي الفردي والمجتمعي..

الفساد في لبنان ليس عيباً ولا سرّاً.. وأيضاً الإعتداء على مقدّرات الناس.. إذ تتحول الضريبة إلى خوّة بدل من أن تكون عملية تبادلية بين المواطن ودولته.. أي أنّني أدفع مقابل ما وَعَدْتَني به.. أمّا أن تأخذ مني كلّ شيء ولا تعطيني شيء فذلك بلطجة وفساد وغير أخلاقي.. وهذا يعتبر طبيعي في لبنان لا بل ميزة وشطارة.. ومن لا يتقنه يُعتَبر لبناني فاشل أي غير فاسد.. وتلك هي فئة المستضعفين والمهمّشين والذين يتجرّأ عليهم الكبير والصغير لأنّهم فشلوا بالندالة والفساد.. وعندما أسمع بعض الإعلاميين يتحدثون عن الدولة الفاشلة والفاسدة وهم من تخرّج على أيديهم كلّ الفاشلين والفاسدين على مدى سنوات طوال.. أعرف أنّهم يستخفّون بعقول ما تبقى من مهابيل لبنان المتمسّكين بأخلاقهم الوطنية والإنسانية..

ستتفاقم الأمور يوماً بعد يوم وستزداد المفاجآت.. وما كان صعباً في الماضي سيكون ممكناً الآن.. والعكس صحيح.. ولن يكون لدينا نخبة قادرة على التحكُّم والإستطلاع من أجل حفظ المناعة الوطنية وتعزيزها لأنّ التحلّل الأخلاقي دمّر كلّ القيم الوطنية الجامعة.. وأهمّها الثقة الوطنية بين الأفراد والجماعات والمؤسسات والتي هي أمر بديهي لدى الشعوب والدول في كلّ مكان.. وهذا أمر غير موجود في لبنان لأنّ المقامرة بلبنان هي العمل الوحيد الذي تتقنه الطبقة المتحكّمة بالبلاد.. وإنّهم منشغلون بالقضاء على بعضهم واحتلال لبنان وكأنّهم أعداء غرباء.. لم أسمع عن أحد مستعد أن يضحّي من أجل لبنان.. بل أعرف الكثيرين من المستعدّين للتضحية بأقرب الناس إليهم وبأولياء نعمتهم وأهلهم وجيرانهم ورفاق دربهم وأحزابهم وقادتهم وشهادات أبنائهم ومستقبلهم ومدنهم ووطنهم أيضاً من أجل نزوة شخصية وعديمة الأخلاق.. وحين يسود هؤلاء تكون الحروب ويكون الدمار والفقر والحقد والكراهية والكذب والتّبصير والتنجيم والمرض والفساد والإدّعاء والضّياع.. وهذا ما نحن عليه الآن.. فلم يبق أمامنا إلاّ أن نكرّر ما قاله الرئيس رفيق الحريري.. رحمه الله.. قبل عشر سنوات بالتّمام : «أستودع الله هذا البلد الحبيب وشعبه الطيّب».. لأنّ لبنان الآن بلا أخلاق..