ليس من السهل إقناع اللبنانيين، خصوصاً في الوسط السياسي والإعلامي، أن لبنان لم يعد يحظى باهتمام العالم وأنه عاد إلى وضعه الطبيعي، دولة عادية، شأنها شأن معظم الدول. في مراحل سابقة، جاء الاهتمام الدولي بلبنان مرتبطاً بأزمات داخلية لها امتدادات إقليمية، كما في أزمة 1958 مع اشتداد الاشتباك بين عبد الناصر، المدعوم من «المعسكر الشرقي»، والدول الغربية وحلفائها في المنطقة في إطار الحرب الباردة، ولاحقاً في سنوات الحرب ونزاعاتها المتعددة، لا سيما حروب إسرائيل في لبنان مع اللبنانيين والفلسطينيين وسوريا. أزمات لبنان اليوم لا تشكل تهديداً مباشراً للمصالح الحيوية للدول الكبرى والدول الإقليمية بالمقارنة مع نزاعات سوريا والعراق واليمن وليبيا.
لبنان يستوفي شروط الاستقرار بالمقاييس الإقليمية والدولية. ولولا أزمة اللاجئين السوريين لغاب لبنان عن الاهتمام الدولي. هذا الاهتمام المحدود دافعه المساعدة بالحد الأدنى لاحتواء أزمة اللاجئين المعولمة. وإذا أمكن إبقاء اللاجئين في لبنان بأي صيغة ممكنة، فتصبح أزمة داخل لبنان تعفي الدول المعنية من التزاماتها، فهذا أفضل الخيارات بالنسبة إلى المجتمع الدولي. ولا ننسى الاهتمام الدولي بقوات الأمم المتحدة المتمركزة في الجنوب تنفيذاً لقرار مجلس الأمن 1701. تحرص الدول المشاركة في UNIFIL على حماية جنودها وعدم تعرضهم للخطر. إنه اهتمام الضرورة فرضه الوضع المأزوم في الجنوب. مسألة أخرى تُشغل بال الولايات المتحدة، الكونغرس تحديداً، ترتبط بالضغط على «حزب الله» لأغراض متعددة، منها التكفيرعن ذنب تطبيع علاقات واشنطن مع طهران بدعم من الرئيس الأميركي.
لبنان محيّد اقليميا لانه لم يعد ساحة مجدية لنزاعات المنطقة المعسكرة، ولا مصلحة لاحد بتحويل لبنان ساحة حرب تضاف الى ساحات الحروب المشتعلة. اما الرئاسة اللبنانية فهي مسألة عرضية في حسابات الدول الكبرى وحتى الدول الاقليمية المعنية بلبنان، وهي لا تقدّم ولا تؤخّر في مصالح هذه الدول وفي موازين القوى الاقليمية بالمقارنة مع نزاعات المنطقة وحروبها. السعودية غارقة في حرب اليمن وفي التصدي لايران، لا ردّا على نفوذ طهران في المنطقة فحسب بل على اتفاق فيينا بين ايران والدول الكبرى. وايران منشغلة بأولويات اخرى في المنطقة وفي علاقاتها مع الدول الكبرى، وفي لبنان حزب الله ممرّ إلزامي لسياسة طهران.
دردشة «عالماشي» بين وزيري خارجية ايران والسعودية في بهو فندق كانت كافية ليرى فيها البعض في لبنان توافقا اقليميا لترشيح النائب سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية، الى ان «راحت السكرة» وجاءت «الفكرة» بعد قطع الرياض علاقاتها الديبلوماسية مع طهران. لم يهنأ اللبنانيون، ولو لفترة اسابيع، بوهم التوافق المزعوم. وفي حال توافق الطرفان وغيرهما وعادت الاوضاع الى حد ادنى من العلاقات الطبيعية بين الرياض وطهران، فثمار هذا التوافق قد تُقطف في اليمن وسوريا وليس بالضرورة في لبنان. الدعم الدولي لاي مبادرة رئاسية لن يتأخر اذا اتفق اللبنانيون.
الواقع ان مطبخ الملف الرئاسي، طباخوه لبنانيون متمرّسون. المسألة الاكثر دلالة في هذا الاطار ان امكانية «طبخ» الصفقات لا تزال متاحة على رغم الاضواء الاعلامية والشعبية والسياسية المسلّطة، وكان آخرها صفقة ترحيل النفايات على قاعدة «داوني بالتي كانت هي الداء». انه داء المحاصصة بعد ترحيل الملفات الخلافية الداخلية المرتبطة بالاوضاع الاقليمية. فبالنسبة الى صاحب المبادرة الرئاسية الاخيرة، الرئيس سعد الحريري، الاعتراض على قتال «حزب الله» في سوريا وعلى نظام الاقتراع النسبي بسبب «سلاح حزب الله» لم يعد قائما مع دعم ترشيح النائب فرنجية، الحليف الموثوق لـ «حزب الله» وسوريا منذ عقود. قبل دعم ترشيح سليمان فرنجية كانت المعركة سياسية، وبعد ترشيحه باتت معركة اعادة احياء نظام المحاصصة مع استبدال الوصاية الخارجية بأخرى داخلية، اكثر تماسكا، لكن مع ربط نزاع إسمي يلائم الجميع، يحيّد الخلاف السياسي، بمعزل عن حجمه ومضمونه، صونا لمغانم السلطة والمال.