تبلّغ لبنان تهديد المجتمع الدولي: وافِقوا على التوطين الواقعي للاجئين، وإلّا فسنرفع عنكم المظلَّة! وبعد أيام، نفَّذت السعودية تهديدها: كونوا معنا ضدّ «حزب الله» وإيران، وإلّا فسنرفع عنكم المظلَّة!
إذا تمّ تنفيذ التهديدَين معاً، سيكون لبنان غير محميٍّ، لا سياسياً ولا مالياً ولا حتى أمنياً، لا دولياً ولا عربياً. وعندئذٍ، عليه أن يواجه مصيره.
المظلَّة الأولى، الدولية، تترنَّح لأنّ المجتمع الدولي استفزّه أن يقوم بعض اللبنانيين بمعاندة إرادته.
وهو لن يتراجع عن خطته الرامية إلى التخلُّص من اللاجئين بـ»رميهم» في أحضان لبنان والأردن وسائر الجوار، تنفيذاً لرغبات إسرائيل في مخطط المقايضات الديموغرافية التي تريد فيها أن تعالج مأزق وجودها وفي لحظة غير منتظرة.
وفي أيّ لحظة، قد يفاجأ لبنان بتنفيذ المجتمع الدولي عقوبات لها أثرها الخطر على مستقبله. وقد يواجه القطاع المصرفي اللبناني استحقاق الشفافية في ما يتعلق بدعم «حزب الله» المتهم بالإرهاب أميركياً. ولم يشفع بهذا القطاع ما يقوم به أركانه من جولات لتدارك الأسوأ، بعد إقرار المجلس النيابي أواخر العام الفائت تشريعات تستجيب لمتطلبات الشفافية ومنع التزوير وتبييض الأموال.
والمظلَّة الثانية، الخليجية، اهتزت فعلاً بإلغاء الهبة السعودية. وقد تكون هناك خطوات تستهدف فئات من اللبنانيين العاملين في الخليج، وتجميد مبادرات ومشاريع خليجية في لبنان. وربما يُترجَم بعض الضغوط مصرفياً، إذا استمرّ لبنان في سياسته المنحازة إلى «حزب الله».
وهكذا، على لبنان الواقع بين فكّي كماشة، أن يحتسب لاحتمال رفع المظلتين اللتين وفَّرتا له الحماية والاستقرار حتى الآن، على رغم النزاعات التي دارت وتدور على أرضه، وعلى رغم تفجير الكيانات المجاورة له، وسوريا تحديداً، وانخراط فئات لبنانية في حروبها المذهبية.
الضمان الدولي سياسي معنوي في الدرجة الأولى، وتجري ترجمته مالياً وأمنياً. وأما الضمان الخليجي فمالي – اقتصادي أولاً، ومن ثمّ مذهبي وأمني. وإذا طار الضمانان، سيكون لبنان في مأزق خطر، خصوصاً على الصعيدين المالي- الاقتصادي والأمني.
ويقول مصدر سياسي على علاقة وثيقة بالسعودية إنّ المملكة جدّية هذه المرة في قراراتها المتعلقة بلبنان. فالعهد القائم حالياً يريد فتح علاقات جديدة مع إيران، لكنه في المقابل يريد أن يلعب كلَّ الأوراق التي تسمح له بإنجاز اتفاق متوازن معها.
فإذا تعذّر التوازن، لا بدّ من المواجهة. فهو اختبر مقاربة العهد السعودي السابق للملفين اللبناني والسوري، واكتشف أنّ المواجهة مع إيران تبقى أفضل من المهادنة التي استفادت منها لزيادة نفوذها. ولذلك، لن تعود المملكة عن هذا النهج، بل سيتطوَّر صعوداً نحو خطوات أخرى، ما لم يبدِّل لبنان الرسمي نهجه الحالي المنحاز إلى «حزب الله».
ولم يكن اللبنانيون يتوقعون أن يبلغ الأمر بالسعودية حدّ قطع المساعدات، ولذلك لم يأخذوا تحذيراتها على محمل الجدّ. لكنّ السعودية وحليفاتها أرادتا توجيه رسالة مفادها أنهما لن تستمرّا في دور فريق الإنقاذ الذي يلجأ إليه اللبنانيون مالياً وسياسياً، إذا استمروا في انحيازهم إلى محور الخصوم.
وإذا تقاطعت الإرادتان الدولية والخليجية على معاقبة لبنان، سيكون في أسوأ أوضاعه، وخصوصاً المستويين المالي – الاقتصادي والأمني. فالمؤسسات المالية والمصرفية اللبنانية تتلقى جرعات الدعم التي تمنع الانهيار من الخليج العربي والمجتمع الدولي. وكذلك الأمن.
وإذا حصل ذلك، سيكون لبنان في حال يمرّ بها للمرة الأولى. فلم يسبق له أن تعرَّض لاستحقاق مماثل طوال نصف قرن من الحروب فيه. ويخشى البعض من أن يؤدي ذلك إلى تسريع الانهيار الكبير الذي يخشاه كثيرون بسبب الاهتراء الاقتصادي المتمادي.
وسيكون لبنان في وضعية شبه استسلامية. ولن يكون هناك متبرّعون لإنقاذه – على الأرجح – سوى إيران التي تستفيق متعافية من أزماتها الطويلة، بعد توقيعها اتفاقَ فيينا مع القوى الكبرى.
فإيران تنتعش، وستدفع أموالاً تستثمر فيها سياسياً في لبنان وسوريا والعراق. وإذا تدخلت وأنقذت لبنان، فإنه سيكون في خدمتها وعضواً عاملاً في محورها. وعندئذٍ، يظهر لغز انهيار «14 آذار» فكرة سياسية وإطاراً، وسبب تهافت أركانها على مرشحي «8 آذار»!
وسيكون مبرَّراً أن يعتمد أركان «14 آذار» توجهات سياسية جديدة، بدعم «التحالف الرباعي» الذي سيتولّى «تبليع» الجميع أنّ النفوذ الأول بات لإيران في لبنان لا لسواها. فأفرقاء «14 آذار» هم في المرحلة الاختبارية لممارسة السياسة وفقاً للمعادلة الجديدة، حيث التحدّي هو: هل ستتسلّم إيران النفوذ الأول في لبنان أم سيستمرّ التوازن الإقليمي فيه؟
إذا حصل الخلل، فسيمارس «حزب الله» والرئيس بشار الأسد سياسة كانا يمارسانها أيام الرئيس رفيق الحريري. وسيكون الرئيس سعد الحريري أمام خيار الموافقة على هذا الدور أو الاعتراض، وهذا يعني عودته إلى الخارج مجدداً، لأنّ الاعتراض في الداخل قد يصبح أكثر صعوبة، يوماً بعد يوم.
وينظر بعض المراقبين إلى ما جرى في السعديات أخيراً ببراءة، ويعتبرونه حادثاً ذا أبعاد «موضعية». لكنّ البعض يرى أنه قد يحمل دلالات أكبر في خلق توترات أمنية مذهبية، تترافق والأزمة الإيرانية – السعودية.
الحريري عاد على أمل تسوية، أو بـ»رائحة تسوية»، قد يتمّ التوصل إليها مع «الحزب» وإيران، والسعودية تغطيها. لكنّ السعودية والحريري قد يفاجآن بأنّ السقف الذي يطلبه الإيرانيون لا يمكن أن يصلا إليه. وعندئذ سيتراجع الحريري ويراجع ويرجع إلى قواعده سالماً.
سيرسل لبنان تعهدات عبر رئيس الحكومة تمام سلام بـ«تصحيح» التوازن. وإذا رضي السعوديون وتراجعوا عن القرار، فذلك يعني أنهم نجحوا في ضبط السرعة التي سيذهب فيها لبنان في اتجاه إيران.
وأما إذا لم يقتنعوا بالتبريرات اللبنانية ولم يتراجعوا وأصرّوا على قرارهم ومضوا في التصعيد، ومعهم الإمارات والبحرين ودول أخرى في المنظومة الخليجية، فذلك يعني أنّ السعودية لم تتخذ القرار لتتراجع عنه.
وفي هذه الحال، هناك تفسيران لقرار السعوديين:
1- أنهم يريدون مواجهة مفتوحة مع إيران في كلّ الشرق الأوسط، بدءاً من لبنان، وأنهم لن يسمحوا لها بإقامة «الهلال الشيعي».
2- على العكس، أنهم أوقفوا مواجهتهم مع إيران في لبنان حيث لم يُهزَم «حزب الله»، وفي سوريا حيث لم يُهزم الأسد. ولذلك، بدأوا يعتمدون في «الهلال الشيعي» سياسة الدفاع عن المواقع لا أكثر، وتفرَّغوا لأمنهم الخاص في الخليج، بدءاً من اليمن.
وفي هذا المجال، يتحدث المتابعون عن إصرار الإدارة السعودية الحالية على نهج المواجهة الذي تعتمده منذ وصول الملك سلمان بن عبد العزيز إلى الحكم، والذي يختلف عن سياسة سلفه الملك عبدالله. والمشكلة الأساسية التي تعانيها الرياض اليوم هي أنّ حليفتها الأولى، الولايات المتحدة الاميركية، أنجزت اتفاقاً مع إيران يمنحها هامشاً واسعاً من النفوذ في الشرق الأوسط كله.
أبلغ الأميركيون الى المملكة أنّ أمنها وأمن شقيقاتها محفوظ، وأنّ اليمن لن تكون شوكة في الخاصرة. لكن ربما تبلّغ السعوديون أنّ اللعبة مختلفة في العراق وسوريا ولبنان، حيث لإيران دور أساسي من خلال حلفائها الذين باتوا يحظون بـ«دعم خفي» من واشنطن.
إذاً، في هذه الحال، لماذا تدفع السعودية المليارات، وهي في وضعية غير مريحة مالياً بسبب تراجع أسعار النفط، إذا لم يكن هناك مكسب سياسي من هذه الهبة؟
السؤال حسّاس ويحتاج الجواب عنه إلى مزيد من الوقت. ولكن، أيّاً كانت حيثيات القرار السعودي، فتنفيذه سيعني تكريس وقوع لبنان في الحضن الإيراني. وهنا تبدأ مرحلة جديدة من تاريخ لبنان والشرق الأوسط بكامله.