IMLebanon

لبنان وطائر الفينيق

خلال الحرب الأهلية اللبنانية، لا أعادَها الله، بين عامي 1975 و1990، تكرّرَت كثيراً مقولة مفادُها، لو أنّ تلك الحرب حصَلت في بلدٍ آخَر لانتهى بكلّ تأكيد، وأنّ تركيبةَ لبنان باقتصاده الحر ودورِ مغتربيه وإرادة أبنائه على اختلاف مشاربهم وأهوائهم التقَت كلُّها عند نقطة أساسية، وهي أنّ لبنان قد يهتزّ لكنّه لا يمكن أن يقع.

كانت هذه المقولة تنطبق أيضاً على كلّ الحروب التي تفرَّعت عن الحرب الأهلية أو تلتها، من حروب الأشقّاء الأعداء في كلّ مكان إلى حروب المخيّمات إلى حروب الإلغاء والتحرير وكلّ حروب الزواريب والأزقّة، واستمرّت هذه القاعدة إلى أن انتهَت رسمياً الحرب الأهلية بإعلان «إتّفاق الطائف» الذي وضَع النقاط على الحروف في الجوانب الميثاقية لجهة نهائية لبنان الأرض والشعب والمؤسسات ككيان، وعروبة لبنان، والنظام الجمهوري الديموقراطي البرلماني، وفي أنّ الشعب مصدرُ السلطات، يمارسُها عبر المؤسسات الدستورية، ومبدأ الفصل بين السلطات وتوازنِها وتعاونها، والنظام الاقتصادي الحر، والإنماء المتوازن، وإلغاء الطائفية السياسية، ووحدة الأرض والشعب، ومبدأ «لا شرعية لأيّ سلطة تناقِض ميثاق العيش المشترك».

وشهد لبنان بعدها نهضةً اقتصادية غير مسبوقة تمثّلت بورشة إعادة البناء واستقطاب السيّاح والمستثمرين العرب والأجانب وباستعادة دور لبنان الريادي في المنطقة في أكثر من مجال.

إلّا أنّ هذه النهضة واجَهت عقبتين أساسيتين، الأولى تكرار بعض الخضّات ذات الطابع الأمني، والثانية عدم تطبيق كلّ ما اتُفق عليه في «الطائف»، خصوصاً لجهة إلغاء الطائفية السياسية.

فشهدنا حروباً متنقّلة وبأشكال مختلفة، أخطرُها الاعتداءات الإسرائيلية المتكرّرة، والاغتيالات السياسية المتلاحقة والتي طاوَلت كوكبةً مِن رجالات لبنان، من الرئيس الشهيد رفيق الحريري والوزير باسل فليحان والإعلامي سمير قصير وجوج حاوي والنائب جبران تويني والوزير بيار أمين الجميّل والنائب وليد عيدو والنائب أنطوان غانم واللواء فرنسوا الحاج والنقيب وسام عيد والنقيب الطيّار سامر حنا واللواء وسام الحسن، وصولاً إلى الوزير محمد شطح والعديد من الشخصيات الأخرى. إضافةً إلى محاولات اغتيال الشهداء الأحياء، منهم الوزير مروان حمادة والوزير الياس المر والإعلامية مي شدياق وغيرهم.

تَرافقَ كلّ ذلك مع محاولة تدمير منهجي لبنية الدولة لمصلحة منطق الدويلة، فظهرَت الأجهزة الأمنية والقضائية البديلة، والجمارك البديلة، والمطارات والموانئ البديلة، والإعلام الرسمي البديل، والوزارات البديلة، وتغَلغل منطق الدويلة في كثير من مؤسسات الدولة، وأرهَب الناسَ، كلَّ الناس، في كلّ مكان.

وبعد كلّ جولة من جولات العنف أو الاعتداء على الدولة والمواطنين، كان لبنان وبقدرةٍ استثنائية يتجاوز الكثيرَ مِن السلبيات في اتّجاه إرادة الحياة. ولعلّ المثالَ الواضح والصريح على ذلك كلّه هو ما حدثَ بعدما احتلّ «حزب الله» وحلفاؤه وسط بيروت لفترةٍ طويلة وتمّ التدمير الاقتصادي للكثير من المؤسسات الرسمية والخاصة، وصولاً إلى ارتكاب الجريمة الأكبر في 7 أيار 2008، بعد ذلك كلّه تمَّ إنجاز «إتّفاق الدوحة» بتسوية سياسية في 21 أيار 2008، وكان من نتائجه الفورية الانسحابُ من وسط بيروت خلال ساعات قليلة.

في ذلك اليوم، وكنّا أنا والعديد من النواب المهدَّدين بالاغتيال لا نزال في أوتيل «لاهويا» الملحق بأوتيل «الريفييرا»، بعدما هجَرنا منازلنا قبل عام كامل، خلافاً لأكاذيب دنيئة ومنحطّة، كنّا نتابع ما يجري لحظةً بلحظة ليذهلنا اللبنانيون مرّةً جديدة بإصرارهم على إرادة الحياة، هذه الإرادة التي تمثّلت بعودة الحياة إلى طبيعتها فوراً في وسط بيروت واكتظّت الشوارع بالناس، ما جعلَ كلَّ مَن يريد حجزَ كرسيٍّ في أيّ مطعم من مطاعم وسط العاصمة يراه أمراً مستحيلاً، فانتصرَت إرادة الحياة لدى اللبنانيين على إرادة الظلام، وانتصَر طائر الفينيق اللبناني منتفِضاً ومؤكّداً أنّ لبنان لا يموت، بعدما اعتقدَ كثيرون بأنّه انتهى. السبب ببساطة شديدة هو لبنان. وللحديث صِلة.